بقلم: محمد بن عمر
تحيي جميع شعوب ودول العالم ذكرياتها الوطنية،
كل بحسب عمق تلك الذكريات وتأصّلها، وحقيقة انبعاثها في تاريخها الوطني، وغالبا ما
تكون مرتبطة بحركة تحررها من الاستعمار، الذي غزا بلادها، وجثم على مقدراتها ناهبا
وعابثا بها.
تلك الذكريات التي نقشت في ذاكرتنا بعزيمة
وارادة عبر عنها أسلافنا بجهود صادقة وكفاح كانت ثمرتها ذهاب الاستعمار الاستيطاني
وانسحاب عساكره من أراضينا، غير أن الذي اعقبه كان حجر عثرة نمونا وتقدمنا، فمن
استلم حكوماتنا على الاغلب، كان في ظاهره وطنيا، وفي باطنه متمالئا عميلا لذلك
الاستعمار، يأتمر بأمره، ويسعى في الابقاء على حظوظه في بلادنا، ومن أجل ذلك عشنا
الخيبات الواحدة تلو الاخرى، وبقينا نتسول عطاء من ابتزنا واستغلنا ونهب خيراتنا وامتهننا
واذل رقابنا الى اليوم، وها هو البرلمان الأوروبي، يصنف تونس رسميا ضمن 17 دولة، في (قائمة سوداء) اعتبرها ملاذات ضريبية
امنة، او ما يسمى (الجنان الضريبية)، قائمة سيكون لوجود اسم بلادنا فيها، انعكاسات
سلبية على الوضع الاقتصادي والسياسي والامني التونسي.
عندما أمر امام مبنى سفارة دولة الاستعمار
فرنسا يتملكني الاسى على ما وصلت اليه تونس فمن لا يعرف بلادي يعتقد أنه امام مظهر
حربي متاريس وحراسات متعددة عسكرية وأمنية واستخبارية زيادة على الالكترونية، واسلاك
شائكة محيطة بالمبنى من جهاته الاربع والغاء واضح للحركة المرورية لثلاث شوارع
جانبية وخلفية، مع أن السفارة الفرنسية نقلت اغلب اعمالها الى مقرها الجديد
بالبحيرة 1.
ونحن اليوم اذ نحتفل بالذكرى 62 للإستقلال (20
مارس 1956) نرى من الضروري الاشارة الى أن بقاء هذا المظهر المشين في قلب العاصمة
وفي شارعها الذي يعتبر رمزا من رموز الثورة التونسية، التي غيرت وضع البلاد، من
حال الخضوع لدكتاتورية عميلة لفرنسا والغرب، الى مجال من الحرية والانعتاق من ربقة
التبعية التي لم نتخلص منها منذ ذلك اليوم الذي رضخت فيه فرنسا الى ارادة المقاومة
الشعبية التي أهانها بورقيبة بإطلاق اسم (فلاقة) على مناضليها، ودليل من فمه
المتفرنس قلبا وقالبا، بما حاكى به لغة المستعمر الذي اعجبته التسمية.
وهنا لا بد من مطالبة نخبنا العلمية في التاريخ
أن تعيد قراءة الواقع التاريخي لتونس واماطة ما خفي من مفاصل احداثه ذلك أن
التاريخ كما اشار اليه العلامة ابن خلدون (...في باطنه نظر وتحقيق)
هذا ليس استرخاصا لدماء شهدائنا ولكن تنبيها
بأن معركة بنزرت مثلا كانت مأساة بأتم معنى الكلمة تخطيطا وتنفيذا وتعتبر استهانة
بآلاف الارواح التي استشهدت وهي عزلاء من اي سلاح امام مستعمر لم يرحم أحدا منهم
فحصدهم بطائراته ودباباته ومدافعه، وكانت قيادتهم السياسية ممثلة في بورقيبة قد
نزلت عند شروط الاستعمار بتسليم اسلحة المقاومين.
وفي اعتقادي ان الفرنكفوني بورقيبة، لم يكن
لتقبل به فرنسا مفاوضا على استقلال بلاده، لولا معرفتها به واطلاعها على تفاصيله
شخصية وسيرة وهو الوفيّ لثقافته الغربية والعامل على نشرها في مناهجه التعليمية،
ابقاء على تبعية لفرنسا قرأناها في معاهدنا تاريخا وجغرافيا فرنسا.
استقلال رفضه وعارضه صالح بن يوسف، الامين
العام للحزب الحر الجديد، بصيغته التي عرضت ونفذت، واعتبره خطوة الى الوراء، والقى
من أجل فضحه خطابا في جامع الزيتونة في 1955 قال فيه (حبيب بورقيبة خائن، وقام
بصفقة مع الغرب الاستعماري... بورقيبة عميل للغرب، وعدو للعروبة والإسلام)
وثيقة أو اتفاقية الاستقلال، كانت كلها في صالح
فرنسا، التي خرجت من تونس بثوب الاستعمار وتبعاته الاجرامية، لتدخلها من جديد
مبرّأة نقية الثوب، بأسلوب اشد استغلالا لها، بواسطة الامتيازات التي ضمنتها من
تلك الوثيقة، التي حرص بورقيبة على اخفائها وعدم نشرها سنوات طوال.
ومع تغريب البلاد تجرأ
بورقيبة على مقدساتنا وهو اللائكي المعروف، حتى حضوره ليلي القدر في جامع الزيتونة
أو القيروان، كان تظاهرا وذر رماد على العيون، بدليل انه دعا الى الاستهانة بشهر
الصيام، وحث على الافطار فيه بدعوى المحافظة على الانتاج، وضمان مردودية العمال
فيه.
ارسى بورقيبة دكتاتورية مقيتة، كرست نظام
الحزب الواحد، فداس على حقوق الانسان وكبت كل نفس معارض شخصا كان أم مجموعة، تكلم
بلسانه أو بقلمه، فالسجون من برج الرومي الى رجيم معتوق، مآل من يعارض حكمه، وكان
الاغتيال والاعدام وسيلتي سلطته، في الإبقاء على ديمومة كرسي حكمه، وكانت سيرته في
اعياد ميلاده (3/8 ) قد فاقت الملوك والاباطرة، فشهر أوت (أغسطس) بأكمله تقام فيه الاحتفالات
احتفاء بالمناسبة، وتسخر فيه امكانات البلاد بمحافظاتها، التي تتنافس في تقديم
عرابين الولاء والطاعة، في قصره بالمنستير مسقط راسه، فتصرف الاموال الطائلة بلا
حسيب ولا رقيب، على حساب نمو البلاد واستحقاقات الشعب.
كان الاعلام كله يهلل لبورقيبة، ويغطي جرائمه
بتقديمه المجاهد الاكبر، وسيد اسياد البلاد، ومنقذها ومحررها من الاستعمار الفرنسي،
بينما هو في واقع الامر، بائعها الى فرنسا بزهيد حكمه البوليسي، القامع لإرادة
الشعب الحقيقية، بفئاته المناضلة التي عارضت حكمه، وبرز ذلك خصوصا في الانقلاب
الفاشل سنة 1961 الذي ادّى الى اعدام خيرة من رجالات البلاد، واحداث الاتحاد سنة
1978 ، التي راح ضحيتها مئات الكادحين المطالبين بحقوقهم، وأحداث الخبزة 1984،
والتي خلفت ايضا ضحايا كثر، لا يعرف عددهم سوى قاتليهم، وجدير بالذكر أنها قمعت
ببطش جلواز بورقيبة بن علي، الذي كان مديرا عاما للأمن الوطني وقتها.
ولا زلنا نرى ونسمع تحركات السفير الفرنسي
بتونس وهو يجوب المناطق من الشمال الى الجنوب، ولا غرابة فيما يأتيه وهو على مرأى
ومسمع من ابن الفرنكوفونية البار، وتلميذ بورقيبة الباجي قايد السبسي، ولا اعتقد
أنه بقي لم يقول أن تونس مستقلة حجة، وعلى أحسن الاحوال، فان من يجزم بذلك، فليس
بإمكانه أن ينفي عن نظامنا تبعيته لفرنسا والغرب.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire