يعتبر الحج أحد أهم الشعائر الاسلامية، التي
دعا الامام الخميني رحمه الله إلى إعادة النظر فيها أحكاما وأداء ومقاصد، معتبرا
أنها ضحية أنظمة ظالمة متسلطة على الاسلام، عملت على حرف الناس عن حقيقة دينهم،
وتجريده من معنوياته الحقيقية، التي ترتقي بالمسلم من حالة اللاوعي والانغلاق على
الذات والانعزالية، الى مستوى عال من الشعور بالكتلة الصالحة في الامة، والعمل على
تلبية ندائها، في كل ما تقدّمه من فكر إسلامي أصيل، يرى الحج الإبراهيمي المحمدي، دعوة
قرآنية جمعت واجبين اسلاميين هامّين، عليهما مدار صلاح أمتنا الاسلامية، براءة
وولاية، براءة من المشركين أينما كانوا، وتحت أي عنوان كان، وفي أي زمن ظهروا،
وولاية المؤمنين وإن اختلفت بهم طرق الفهم التجزيئي للدين، وما الحج الا اعلان
وتنفيذ للمبدئين الاسلاميين المهمّين.
الحج شعيرة هامة من شعائر الله، وركن من أركان التعبد والتسليم له،
بنى أركانها ونسج أعمالها، على منوال حركة النبي إبراهيم عليه السلام، وزوجته هاجر
وابنه اسماعيل عليهما السلام، في مواجهة الشيطان وغوايته، والحج من هذه الناحية،
يتعدى كونه مجرد محاكاة حركة أبي الأنبياء عليه السلام، وزوجته الطاهرة هاجر عليها
السلام، الى فهم معاني الحج الحقيقية، وما تشتمل عليه من آداب معنوية هامة، لو عاد
المسلمون الى تدارسه، وإستصفاء غاياته والعمل بها، لأدركوا ما يشتمل عليه الإسلام
المحمدي الأصيل من قيم، لم تتلوث بتحريفات أنظمة الظلم والجور، عملت على إفراغ دين
الله من محتواه ومقاصده وأهدافه، التي بقيت مركونة مسجونة في كتب العرفان وآداب
السلوك، التي دوّنها علماء الاسلام الأبرار، لكل من أراد السير الحقيقي الى الله
تعالى.
الحج سفر الى الله
لأن
الحج وفادة على الله تعالى، في بيته الحرام وكعبته المشرّفة، فإنه ليس سفرا عاديا،
فبه تتجرد روح الفرد المسلم من حالة التفرد، التي هي لله تعالى، الى حالة التوحّد
بنظائرها من المخلوقات،( الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها إئتلف)(1)وتتخلص بذلك
من الإنّية المريضة، وتتعافى من رؤية الذات القاصرة، وتلبية شهواتها وإرضاء
نزواتها، إلى رؤية عالم الشهود وعمله الصالح، وكانت نظرة الإمام الخميني إليه، من
جهة عرفانية، لامست مقاصد شعيرة الحج، الغائبة عن عامة علماء الأمة، الذي وقعوا
ضحية تحريف المعاني والمقاصد السامية للحج.
من ضمن ما قاله الإمام الخميني رحمه الله
تعريفا للحج: إعلموا أن الحج ليس سفر كسب، أو تحصيل دنيا، بل هو سفر الى الله
ووفادة عليه، لذا لا بد لكم من الإقتداء بالأنبياء العظام والائمة الاطهار عليهم
السلام، الذين كانوا في سفر دائم الى الله، في كل أدوار حياتهم، ولم يتخلفوا خطوة
واحدة عن السير إليه. (2)
وفي مقام الشرح لهذا السفر الهام، تحدث
الإمام الخميني رحمه الله، عمّا تضمنه الحج من ركني الولاية وبراءة، مستدلا عليهما بالآية
الكريمة:(وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ
يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ
اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (3) بما تحمله من إعلان إلهي ونبوي صريحين، بالبراءة من
الشرك والمشركين، وهي عامل يسهم في وضع حد لأي تعامل مع هؤلاء الأعداء، ومخالفتها
معصية كبرى، ومدعاة لسخط الله وغضب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وواقع حال
حكامنا اليوم يثبت تورطهم في مودّة من حادّ الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم،
وخضوعهم لمخططات الاضرار بالإسلام والمسلمين.
لم يكن الإمام الخميني رحمه الله مبتدعا
روحية شعائر الحج وأبعادها المعنوية، وإنما كان مبلغا عن النبي(ص)، وأئمة الهدى من
أهل بيته عليهم السلام، عندما تصدوا في عصورهم الى ظاهرة استفراغ الشعائر العبادية
من مقاصدها، وسلبها من صورها المعنوية الصحيحة، تبليغا عميقا في معناه، دقيقا في
توصيفه وإشارته، إلى الشرك والمشركين في هذا العصر، مطلقا مصطلح الإستكبار على
الأنظمة الغربية، المستغلة للشعوب الفقيرة، والشيطان الأكبر على أمريكا زعيمتها،
ورائدة الشر في العالم.
المعاني العظيمة لأركان الحج
في بيانه الى حجاج بيت الله الحرام بتاريخ
07/08/1986 قال الامام الخميني رضوان الله عليه:
"في تلبيتكم قولوا (لا) لجميع
الاوثان واصرخوا ب(لا) في وجه جميع الطواغيت واذنابهم، وبطوافكم بالحرم الالهي
الذي يعبر عن حب الحق، اخلوا قلوبكم من وجود الاخرين، وطهروا ارواحكم من خشيتها
لغير الحق، وتزامنا مع حب الله، تبرأوا من الاوثان الكبيرة والصغيرة والطواغيت
واتباعهم، فان الله تعالى وأولياؤه تبرأوا منهم، وان احرار العالم كافة بريئون
منهم.
وفي لمسكم الحجر الأسود، عاهدوا الله سبحانه
بان تعادوا أعداء الله وأعداء رسوله والصالحين والأحرار، وبالا تخضعوا وتستسلموا
لهم مهما كانوا، وأينما كانوا...وليكن سعيكم بين الصفا والمروة، سعيا مخلصا
وصادقا، للوصول الى المحبوب، حيث ستتبدد بذلك الاوهام الدنيوية، وتنتفي كل الشكوك،
ويزول الخوف والرجاء الحيواني، وجميع الاهواء، وتتفتح الحريات، وتتحطم قيود
الشيطان والطاغوت، التي تجر عباد الله الى الأسر والتسليم.
وبحال الشعور والعرفان، توجهوا الى المشعر
الحرام، وضاعفوا في كل موقف، من اطمئنان القلب، بوعد الحق وحكومة
المستضعفين...ستقومون في هذا السفر الالهي الذي تعزمون عليه برجم الشيطان، فاذا
كنتم انتم انفسكم من جنود الشيطان - لا سمح الله – فهذا يعني انكم ترجمون انفسكم
ايضا، يجب ان تكونوا رحمانيين، ليكون رجمكم كرجم الرحمان وجنوده للشيطان ...ثم
اذهبوا الى منى، وحققوا أمانيكم الحقة، بالتضحية بأعز ما تملكون، في سبيل المحبوب
المطلق... (4)
استلهاما لتلك المعاني من مساءلة الامام علي
بن الحسين عليه السلام، (للشبلي) عن الحج ومقاصده ومعانيه العظيمة، أدرك حقيقة
الاسلام المحمدي الأصيل، واستمد منه العبد الصالح مفجر الثورة الاسلامية ومجدد
الدين الاسلامي في هذا العصر، الامام الخميني رضوان الله عليه قيمه الروحية
وغاياته المعنوية، ليقدمها للامة الاسلامية، منهاجا أصيلا لعبادية سياسية عالمية،
بإمكانها أن تجمع الامة على صعيد واحد، من أجل الإمساك بزمام أمورها، وتحقيق
أهدافها الدنيوية والأخروية معا.
ولان جملة ما أنزل الله سبحانه على نبيه
الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، يمثل تمام ما يحتاجه المجتمع البشري دون نقصان،
فان تشريعات الاسلام، قد شملت الجوانب العامة والخاصة للمجتمع والفرد، وفي مقدمتها
القيادة والسياسة، وقد بين الامام الخميني رحمه الله أن للإسلام منبرين هامّين،
منهما تطرح المستجدات والمطالب الملحّة، لحل إشكالياتها في أنحاء البلاد
الاسلامية، توعية للمسلمين، وتوجيههم الى العمل الصالح، وهما شعيرة صلاة الجمعة،
المعبّر عنها بالعبادية السياسية، باعتبارها ملتقى جهويا، يتدارس بواسطته المسلمون
شؤونهم، وشعيرة الحج باعتبارها اجتماعا عالميا للوافدين على بيت الله الحرام،
وفرصة فريدة تشتمل على أسباب الألفة والوحدة، وتعطي للمسلم مجالا أكبر، من أجل
النهوض لإعلاء كلمة الله، تحت قيادة علمائية رشيدة، معروفة وموثوق بها في زمن
تنطّع الأدعياء، واختراقات الأعداء.
ضريبة التصدي لنصرة الدين وقضاياه المصيرية
وقد قدم الشعب الايراني المسلم، في سبيل
إحياء الحج المحمدي الاصيل مئات من الشهداء، الذين سقطوا يوم التروية، برصاص الغدر
الصهيو الأمريكي السعودي، إعلاء للمعنى الأسمى للحج، وهو البراءة من الشرك
والمشركين، وذلك سنة 1987، عندما عقدت أمريكا والصهيونية وعملاؤها مع حكام الحجاز،
العزم على إسكات صوت الإسلام المحمدي الأصيل، المتمثل في نداءات ومسيرات الحجاج
الإيرانيين، الداعية الى تفعيل مسالة الولاية والبراءة، ودعوة الأمة الاسلامية الى
الوحدة في الحج، امتثالا لدعوة الامام الخميني رحمه الله، في احياء شعائر الحج
الابراهيمي النشأة، المحمدي البعد، المهدوي التمكين والبقاء، وتوعية لبقية
المسلمين بخصوص قضاياهم المصيرية، وأهمها قضية القدس وفلسطين، والوحدة الاسلامية،
وقطع أيدي الاستكبار العالمي، وعلى رأسه أمريكا، راعية الصهيونية العالمية.
لقد كان للتبليغ الذي أرساه الإمام الخميني
رحمه الله في الحج، أثره في إعادة الحج المحمدي الى موقعه الفاعل في نفوس الحجاج،
من مختلف أصقاع العالم، وبدء تغير نظرتهم وسلوكهم نحوه إيجابا، اعتمادا على مقاصده
المعنوية والسياسية التي كادت تندثر، لولا الامام الخميني رجل الاصلاح في عصرنا
الحديث، رغم محاولات حكام ال سعود، في اعادة عجلة الحج الى دورانها المنحرف عن
وجهته ومقصده، لكن هيهات أن ينجحوا في ذلك، إلا ان يبطئوا دوران تأثيرها من حج الى
آخر، بمراسيم تهديداتهم وتحذيراتهم الوقحة، التي إن تمكنت من تعطيل سير مشروع
احياء الحج الابراهيمي المحمدي، وإبطاء سرعة استيعاب المسلمين لأبعاده المعنوية
والروحية، فإنها تبقى عاجزة عن إيقافه، لأنه نور الله، ونوره غير قابل للإطفاء.
المراجع
1 – الشيخ الصدوق من لا يحضره الفقيه باب نوادر الفقيه
حديث 8
ج4 ص282// صحيح البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء : باب الأرواح جنود مجندة/ العقد
الفريد لابن عبد ربه الاندلسي حديث 41 من
كتاب ياقوتة الادب والعلم ج1ص 309
2 – خطاب بتاريخ 30/09/1979
3 – سورة التوبة الآية 3
4 – الحج في احاديث وبيانات الامام الخميني
ص28/297 –
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire