من المؤسف ان نصطدم بعديد الاشخاص في مجتمعاتنا،
ممن اختاروا طوعا، ان يكون خطابهم مزيجا لغة، طغت عليها اللغة الفرنسية، وبألفاظ
لم تدفعهم حاجة اليها، مع وجود ما يقابلها بالعربية ودون عناء.
وبقصي المعضلة، يبدو الامر
متعلقا بعقلية تبعية، خالية من الوطنية تماما، ولا حتى من احترام خصوصيات الأصل والدين
والوطن، كأننا لا زلنا نرزح تحت نير الاستعمار الثقافي – ونحن من نعتقد أننا
تحررنا من الاستعمار الاستيطاني - بعد ان بسط علينا الاستعمار الاقتصادي رداءه،
فغمرنا جميعا بوحشة البقاء تحته، لمن بقي فيه احساس بمصير هذا الشعب وامته.
المتفرنسون في تونس - كثر طنينهم في العاصمة على
وجه الخصوص- تسمعهم يجهدون انفسهم على ان تكون كلماتهم الفرنسية، دالة على انهم من
اهل العلم والثقافة، لكنهم في الواقع ابعد ما يكونون عنهما، بل هم دخلاء عليهما،
ومجتازون لحدودهما خلسة، وبدون مستمسك معترف به، لدى اهل العلم والثقافة الحقيقيين،
اما المزيفين فلا يهمنا من امر زيفهم واقنعتهم المصطنعة شيئا، لان وزنهم في واقع
الامر لا شيء، ولا تأثير لديهم في المجتمع متمظهرون فقط.
اللغة العربية خذلها أهلها أولا، بسهولة انفصالهم
عنها، واستهانتهم بها، وقد نعاها من قبل الشاعر الكبير حافظ ابراهيم بقصيدة
اكثر من رائعة:
رَجَعْتُ لنفْسِي فاتَّهمتُ حَصاتِي وناديْتُ قَوْمِي
فاحْتَسَبْتُ حياتِي
رَمَوني بعُقمٍ في
الشَّبابِ وليتَني عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِ عِداتي
وَلَدتُ ولمَّا لم
أجِدْ لعرائسي رِجالاً وأَكفاءً وَأَدْتُ بناتِي
وسِعتُ كِتابَ اللهِ
لَفظاً وغاية ً وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن
وَصفِ آلة ٍ وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
أنا البحر في أحشائه
الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
فيا وَيحَكُم أبلى
وتَبلى مَحاسِني ومنْكمْ وإنْ عَزَّ الدّواءُ أساتِي
فلا تَكِلُوني للزّمانِ
فإنّني أخافُ عليكم أن تَحينَ وَفاتي
أرى لرِجالِ الغَربِ عِزّاً ومَنعَة ً وكم عَزَّ أقوامٌ بعِزِّ
لُغاتِ
أتَوْا أهلَهُم بالمُعجِزاتِ تَفَنُّناً فيا ليتَكُمْ تأتونَ
بالكلِمَاتِ
أيُطرِبُكُم من جانِبِ الغَربِ ناعِبٌ يُنادي بِوَأدي في رَبيعِ
حَياتي
ولو تَزْجُرونَ الطَّيرَ يوماً عَلِمتُمُ بما تحتَه مِنْ
عَثْرَة ٍ وشَتاتِ
سقَى اللهُ في بَطْنِ الجزِيرة ِ أَعْظُماً يَعِزُّ عليها أن
تلينَ قَناتِي
حَفِظْنَ وِدادِي في البِلى وحَفِظْتُه لهُنّ بقلبٍ دائمِ
الحَسَراتِ
وفاخَرْتُ أَهلَ الغَرْبِ والشرقُ مُطْرِقٌ حَياءً بتلكَ
الأَعْظُمِ النَّخِراتِ
أرى كلَّ يومٍ بالجَرائِدِ مَزْلَقاً مِنَ القبرِ يدنينِي بغيرِ
أناة
وأسمَعُ للكُتّابِ في مِصرَ ضَجّة ً فأعلَمُ أنّ الصَّائحِين
نُعاتي
أَيهجُرنِي قومِي-عفا الله عنهمُ إلى لغة لمْ تتّصلِ برواة
سَرَتْ لُوثَة ُ الافْرَنجِ فيها كمَا سَرَى لُعابُ الأفاعي في
مَسيلِ فُراتِ
فجاءَتْ كثَوْبٍ ضَمَّ سبعين رُقْعة ً مشكَّلة َ الأَلوانِ
مُختلفاتِ
إلى مَعشَرِ الكُتّابِ والجَمعُ حافِلٌ بَسَطْتُ رجائِي بَعدَ
بَسْطِ شَكاتِي
فإمّا حَياة ٌ تبعثُ المَيْتَ في البِلى وتُنبِتُ في تلك
الرُّمُوسِ رُفاتي
وإمّا مَماتٌ لا قيامَة َ بَعدَهُ مماتٌ لَعَمْرِي لمْ يُقَسْ
بمماتِ
مرض استعمال اللغة الفرنسية في تونس، ومحاولات
تغليبها على العربية، يحتاج الى دعوة صادقة لكل وطني، بالإقلاع عن استعمال هذه
اللغة، على الأقل في التخاطب فيما بينهم، تعزيزا للغة الأم العربية في الحضور
المجتمعي الكامل، والتخاطب بين اهلها بما يرفع من شانها، ويحيي الفاظها وكلماتها
الرائعة، الاكثر تعبيرا وعمقا وتأثيرا من بقية اللغات، ولو كانت هناك لغة افضل عند
الله من العربية، لأنزال بها خاتمة وحيه، وجعلها منطوق قرآنه، وخصها بكونها لغة
اهل الجنة، فهل بعد هذا مندوحة لمتذرع ببقائه على اسلوب الهجانة اللغوي، الذي
تشمئز منه كل نفس ابية ترفضه اصالتها ولغتها وتراثها ودينها؟
اعتقد انه بحق ان الاوان لنعتز بلغتنا، وهي التي
اعتز بها وافتخر من غير العرب، من الشخصيات التي لم يتّسعها إطارها فانطلقت خارجه
تزداد تألقا وتميزا.
هذه وزيرة خارجية النمسا قد اختارت في كلمتها ان
تتحدث باللغة العربية، وهي التي كان بإمكانها ان تخاطب الدورة 73 من الجمعية العامة
للأمم المتحدة بلغتها النمساوية، تعظيما لشان اللغة العربية، وتذكيرا بانها لغة
حضارة وتاريخ عريق، فجاءت شهادتها صادمة لأولئك الذين خرجوا من لغتهم، خروج العبد
الابق، فأصبح يردد خليطا غير متجانس كالببغاء، ولو قدروا على التعبير الكامل بلغة
غيرها، لما ترددوا في تركها، لكن خانتهم قلة زادهم منها، فاختلجوا بينها وبين ما
التمسوه من غيرها، اختلاج المريض اليائس، حتى صار الذي يتناهى اليه ذلك الحوار
مشمئزا، من وضاعة المنطق، ورداءة النطق، وانحطاط العقول الخارجة عن اطارها اللغوي،
الى مجال يركس صاحبه في مستنقع اللا وعي، وغياب الادراك بخطورة ما التجأ اليه من
تعبير.
وطبيعي ان هذا الخطاب في التمني بالإقلاع عن هذه العقدة من النقص، لا يعني العملاء
ولا ذوي العقول المريضة بالفرنكوفونية، تبع الاستعمار ومقيمه العام بتونس، ولا
اولئك الحالمين بانه بإمكانهم ان ينفردوا بتقليدهم، فيظهروا حملة حضارة غربية
ودعاة لغة من لغاتها.
صحيح انه من تعلم لغة قوم أمة شرهم، ولكن لا يجب
ان تطغى تلك اللغة على لسان متعلمها، فيدخلها في تفاصيل حياته، فتكون علامة يعرف
بها، بل يجب عليه حتى في حال اتقانها ان يتصرف فيها بما يفيد نفسه ومجتمعه،
بالاطلاع على ما كتب بها، من تاريخ وادب وتراث قوم، وان يستعملها في التخاطب مع
أهلها وقومها، لا أن يرقى ذلك الى مستوى منافسة اللغة الام، وخنق مجالها في العقل
واللسان.
من لطائف نصائح الشهيد السيد حسين بهشتي: تعلموا
اللغة العربية فإنها لغة القرآن، وتعلموا الفارسية فإنها لغة الثورة.
وقد طلعت علينا مرارا شخصيات عالمية خاطبتنا
بلغتنا مخاطبة معرفة وادراك بقيمتها، بما يعطينا دفعا معنويا قويا للتحرك من أجل
اسنادها وافساح المجال لها لتأخذ مكانها الطبيعي في حياتنا، من غير منافسة للغة
لها وهي في حماها، فهل سيعي أولئك العرب أنه بتركهم للغتهم سيجدون أنفسهم في نهاية
المطاف خارج الاطارين العربي والفرنسي، لا لهؤلاء ولا لهؤلاء.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire