بعث خاتم الأنبياء والرسل صلى الله عليه وآله
وسلم بالإسلام، مختتما مسيرة سلسلة الأنبياء ورسالاتهم، مبيّنا في قرآنه وما أوضحه
من سنته قولا وفعلا وتقريرا، ما فتح بصائرنا على كمال الدين وتمامه، فلم يفرّط في شيء
يحتاجه الانسان في معاشه ومآبه.
وما تلاه من سلسلة أئمة هداة، من أهل بيته
الكرام البررة عليهم السلام، ما ثبّت فينا حقائق الإسلام، بمنأى عن التحريف والتأويل
الخاطئ، خلال ثلاثة قرون، مثّلت بحق عصمة الدين، مما شاب غيره من الفرق من أهواء
المضلّين.
فلم نكن نشك يوما، أن الطائفة المحقّة التي
اختارت ووالت الامامة الالهية، نظرية حكم في الاسلام ومتعلقاته منهجا تشبّثت به،
رغم كل المخاطر والتهديدات التي حفت بأهله طوال 14 قرنا، من حكام الظلم والجور في
العصور الفارطة (أمويين، عباسيين، مماليك، عثمانيين)، والحالية في بلاد عدّة،
كانوا يتتبعون أصحاب هذا الخط بلا شفقة ولا رحمة، وبكل قسوة يتعاملون معهم، قتلا
وتمثيلا وتشريدا، هي التي تميّزت على غيرها بالبراءة من الظلم والظالمين،
ومعاداتهم ومحاربتهم، كلما سنحت بذلك فرصة، نصرة للإسلام وعدالته.
وكلما نقترب من عشرة شهر محرم الأولى،
بعاشورائها الحزينة، وشهر صفر ويومه العشرين، الذي يبسه الموالون ثوب الحداد كل
عام، بحلول ذكرى أربعين الامام الحسين عليه السلام، كلما يخرج علينا أدعياء
التشيّع بمظاهر مشينة، تبعث على الاستهجان والاستنكار، والبراءة منها ومن أصحابها،
دفاعا عن منهج اسلامي أصيل، يراد تشويه واجهته العظيمة، وانزالها الى حضيض الممارسات
الوحشية، التي لا علاقة للإسلام ولا التشيع لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بها.
مظاهر مزرية مقرفة، تمارسها وتتبناها جماعة،
تدّعي حب الحسين عليه السلام وموالاته ومواساته، في محنته التي تعرض لها سنة
61 للهجرة، أثبتت بأفعالها تلك، أنها أبعد
ما تكون عنه وعن ثورته الاسلامية، وقيمه العالية التي ثار من اجلها.
لم يدركوا حقيقة خروج الامام الحسين عليه
السلام، ولا تصوّروا اهدافه الواضحة، حتى من خلال كلامه الذي لا لبس فيه (خرجت
طلبا للإصلاح في أمة جدي)، فلم يقدّروا حجم تضحياته، ولا استوعبوا شيئا من مسيرته
الى كربلاء بتسلسلها المكاني، من المدينة عندما عزم على مغادرتها، كفّا لطلب والي
يزيد الفاسق في ارغامه على البيعة، فكانت زيارته الاخيرة لقبر جده صلى الله عليه
وآله وسلم، معبّرة على رغبة في مواجهة الظلم وأهله، صلى ركعتين، ووقف بين يدي جده
وقال: (اللهم هذا قبر نبيّك محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا ابن بنت نبيّك،
وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهم إني أحب المعروف، وأنكر المنكر، وأنا أسألك
يا ذا الجلال والاكرام، بحق القبر ومن فيه، الا اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى
وللمؤمنين رضى) (1)
لم يستقر في مكة، تجنّبا من اراقة دمه فيها، واحتراما
لشعائرها، فآثر الهجرة الى الله والجهاد في سبيله على الحج، ولما عزم على الخروج
منها قال:
(...لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله
رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا اجور الصابرين، لن تشذ ّ عن رسول الله
لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقر بهم عينه، وينجز بهم وعده، من كان باذلا
فينا مهجته، وموطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا مصبحا ان شاء الله.) (2)
ولما وصل العراق وبدأ يقترب من كربلاء، ورأى
تخاذل الناس قال مبيّنا سبب حضوره الى هناك: (إني لم اخرج أشرا ولا بطرا ولا ظالما
ولا مفسدا إنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر،
وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق ومن
رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين.) (3)
متمثلا قول جده النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من رأى سلطاناً جائراً مُستحّلاً لحرام
الله، ناكثا عهده، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان،
فلم يغيّر عليه بفعل ولا قولٍ كان حقّاً على الله أن يُدخله مُدخله.) (4)
وقد رأى في
أولئك الحكام انطباقا لصفة الجور فيهم فقال: (الاّ إنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان،
وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا
حرام الله، وحرموا حلاله، وأنا أحقّ ممّن غيّر) (5)
وكان حقا عليه أن يكون المبادر الى الثورة والتغيير، فقام وهيأ أسباب
نهضته، آخذا بعين الاعتبار، ما يمكن أن يترتب عليها من عبر ودروس، كحمل نسائه
وبناته، ليزيد حركته بعدا معنويا وعاطفيا، من شأنه أن يحرّك القلوب نحوه، فتحرك
مشاعرها اليه، وتتعاطى مع مأساته، بما تستلزمه مودة قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أجر.
ومضى الامام الحسين عليه السلام شهيدا، متميزا عن غيره من الشهداء،
فهو سيد شباب أهل الجنة، ومن كان كذلك، حقيق به ان يكون سيد الشهداء، ومضى بعده
أبناءه البررة عليهم السلام، يحيون ذكراه كل سنة، فلم يظهر منهم من إحياءاتهم ما
يشبه شيئا، من هذا الذي ظهر في هذا الزمن، من أفعال تطبير، وزحف وأفعال أخرى، لا
علاقة لها من قريب ولا من بعيد بالإمام الحسين عليه السلام، وثورته العظيمة
الخالدة، وليست من الاسلام في قيمه الانسانية العالية، ولا من التشيع في واقعيته
وعقلانيته، ولا حتى من الانسانية في شيء.
أفعال تصدى لها كبار المراجع والعلماء، وفي مقدمتهم الامام الخميني
رضوان الله عليه، والامام الخامنئي دامت بركاته، فأدانوها وفندوا مزاعم مبتدعيها،
تفنيدا لم يترك لهم مجالا علميا، يستدلون به على مشروعية أفعالهم، فلاذوا بكل دعوى
عاطلة يستخفون وراءها، متمادين فيما انحرفوا اليه بتعنّتهم، وتبعهم على ذلك جهال
بحقيقة الاسلام ومقاصده الرفيعة، وبالإمام الحسين عليه السلام وثورته العظيمة وأهدافها،
فأعانوا بذلك أعداء التشيع عليهم، فلم يلتفتوا الى ذلك، واستمر بهم الانحراف كأنه
دين لازم، أو حكم لا مفر من اقامته، وكأني بها صناعة أجاد بثها المتربصون، واتقن
صياغتها المغرضون، مسيحية في أصولها التي جاءت منها، صهيونية في أهدافها الطاعنة
في الثورة الاسلامية، وقيمها التي أسسها الامام الحسين عليه السلام، أمريكية غربية
في زرع الفتن والبدع بين المسلمين، في خط ولاية أهل البيت عليهم السلام، رعاية
وتحريضا واستدامة.
الى ادعياء بدع التطبير والزحف أقول: ان كنتكم بحق صادقين في نواياكم
تجاه الاسلام المحمدي الاصيل، ورمز ثورته الامام الحسين عليه السلام، فهؤلاء اعداء
التشيّع قد أعلنوا عليه الحرب، وهذه سوح الجهاد قد انفتحت لمن يرومه، وحريّ
بدمائكم أن تسيل في سبيل الحق، كما سالت دماء الامام الحسين عليه السلام، فتمضون
شهداء مقتفين أثره في الضحية الفداء، وليس التظاهر والادّعاء، وهذا نداء الدفاع عن
حرم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم
واهل بيته عليهم السلام قد ارتفع من جديد (هل من ناصر ينصرنا اهل البيت؟)، فبادروا
اليه وحوّلوا تطبيركم الى جهاد وفداء وطاعة، ودعكم من هذه الافعال المشينة، فإنها
من الهباء المنثور.
عتبي الوحيد على هؤلاء الذين قالوا إنهم علماء، وادّعوا أنهم مراجع،
فوقفوا عند هذه البدع تاركين أبوابها مشرعة للجاهل والغافل، يرتادونها كل مناسبة،
اعتقادا منهم بأنها طاعة مواساة، كأنّ علمهم لم ينفعهم في تمييز الطيب من الخبيث،
خرجوا عن منهج الامام الحسين عليه السلام في الاصلاح وآثروا الصمت والسكوت، فلم
يحسموا أمرها ويبيّنوا ضلالها، بل إن فيهم من شرعن لأتباعه، طريق السب والشتم
والوقيعة في شخصيات اسلامية، ما من شأنه أن يحرّض على المؤمنين، يشعل فتنة عمياء
صماء، زلا أشك فمضى يعملها بقداسة، استئناسا
بفتواه العاطلة وفكرته الباطلة، وليتهم يتوبون الى الله مما اقترفوه بحق الامام
الحسين عليه السلام في تشويه منهجه، وتنفير الناس منه وابعادهم عنه.
المراجع
1 – بحار الانوار المجلسي ج 44 ص328/ شرح احقاق الحق السيد المرعشي ج 11ص600 /
مقتل الحسين الخوارزمي ج1 ص 186
2 – بحار الانوار المجلسي ج44ص367 / الملهوف أو اللّهوف في قتلى الطفوف للسيد
ابن طاووس ص52-53 / كشف الغمة للأربلي ج2 ص204
3 – بحار الانوار المجلسي ج 44 ص 329 / اللهوف ابن طاووس ص 3/ مقتل الحسين
الخوارزمي ج1 ص 188/الشيخ عبد الله البحراني العوالم الامام الحسين ص179/
4 – البحار المجلسي ج44 ص 382/ تاريخ الطبري ج 4ص304
حوادث سنة 61.
5 – الكامل في التاريخ ابن
الأثير ج 3ص280/ الإمام الحسين باقر شريف القرشي ج3ص 80
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire