كان منتظرا أن يقف الرئيس الامريكي دونالد
ترامب من على منبر الدورة 73 للجمعية العمومية للأمم المتحدة، مستجمعا ما فيه من
استكبار كاذب، ليختزل في خطابه كل العقد
التي اجتمعت في عقله عن إيران الاسلام، فيرسلها وابل أكاذيب مكررة، وسيل تهديدات
منتظرة، أظهرت منه استعلاء لم يسبقه فيه أحد من أسلافه، رغم حساسة أوضاعهم تجاهها حين
فترات حكمهم، وما تتطلبه من مواقف، كانت تستوجب من وجهة نظرهم، تصعيدا خطابيا
وعمليا، كالذي دخل غماره منذ أن تسلم ترامب رئاسة بلاده، مفتتحا إياه بحزم عقوبات
جديدة، وخروج أحادي الجانب من الاتفاق النووي مع إيران 5+1، كان يعتقد حسابيا ان
حلفاؤه الاوروبيين - بريطانيا فرنسا ألمانيا - سينقضون عهودهم، وينضمون اليه، لكنه
خاب فيما أمّله منهم، وسقط من حسابه الاعتماد عليهم في هذا الملف.
الحلم الامريكي في الهيمنة على العالم، جسّده
الرئيس الأمريكي الأخير، بفضاضة الرجل الابيض الاحمق، وكأن عرق أخبث راعي بقر،
تلطخت يداه بدماء الهنود الحمر، قد ضربت في دونالد ترامب، فخرج نسخة غير مستحبة
منه، أصبح العالم بشعوبه ودوله العاقلة، يرونه شاذا عن المنطق، توأما للتطرف،
وتهديد السلم والامن العالمي.
هذه المرة بلغ الضرر والاذى دول العالم
بأسره، حتى دول الخليج المحرّضة عادة ضد ايران، كالسعودية والامارات والبحرين، قد
ارهقها ترامب بالابتزاز، واقتصادياتها قاب قوسين او ادنى من الانهيار، ولولا موارد
النفط والحج والعمرة، لأصبحت في خبر كان، ولما كان لها اعتبار أصلا، في عالم
الاعتبار والسياسة.
كما ان الدول الأوروبية الممضية على الاتفاق
النووي مع ايران، قد حزمت امرها فيما يبدو- من خلال تحركاتها- من أجل حماية
مصالحها، ومواجهة العقوبات الجديدة التي يعتزم ترامب تنفيذها في شهر نوفمبر، وفي
مقدمتها حضر تصدير النفط الايراني الى دول العالم، والذي قوبل باستهجان دول، عبّرت
منذ التلويح به عن اعتراضها له، واستمرارها في العمل بعقوده مع ايران كالهند
والصين وكوريا، كما عبرت تركيا عن مواصلة تلقي امداداتها من الغاز الايراني.
وفيما يرى المراقبون دخول الرئيس الامريكي
بتطرّفه ضد ايران، وتشدده المبالغ فيه تجاه الصين بفرض أداءات جمركية مشطّة على
سلعها، وفتور في العلاقات مع روسيا الى حد يذكرنا بالحرب الباردة، فتح باب مغلق من
عدم الاستقرار في العالم، قد يدفع الى اندلاع حرب مدمّرة في أي لحظة، وتحت أي مبرر
يراه الأمريكيون وحلفاؤهم، وجّهت دول عدم الانحياز رسالة الى الجمعية العمومية
للأمم المتحدة مطالبة فيها بتسجيلها وثيقة تخص مجلس الامن والجمعية العامة تناول
عدد من القضايا المتعلقة بالأمن العالمي في مكافحة انتشار اسلحة الدمار الشامل، ادانة تحديث الاسلحة النووية، التي
اتخذتها الولايات المتحدة الامريكية كسياسة نووية استراتيجية لها، منتقدة في نفس
الوقت، بقية الدول النووية لعدم التزامها بتعهداتها، في اطار معاهدة حضر الأسلحة
النوويةNPT / 1968/1995) كما تطرّقت
الرسالة الى الاتفاق النووي بين ايران والدول 5+1 داعية الى حمايته.
وقد جاء خطاب الرئيس روحاني متميّزا، بواقعية
طرحه، ومنطقية ردوده على ادّعاءات الرئيس ترامب حول ايران، معتبرا ما لوّح به من
تهديدات ضدها وضد دول العالم، التي تتعامل اقتصاديا معها ارهابا اقتصاديا، لا
يختلف في شيء عن الارهاب التكفيري، وهما وجهان لعملة واحدة بصناعة أمريكية، لا
ينافسها فيها أحد سوى الكيان الصهيوني.
طوق الخناق ضاق على سياسة الرئيس الامريكي،
بعدم مجاراة الدول الاوروبية لها، ومعارضتها تماما، مما وضع صاحبها في عزلة دولية،
من شأنها أن تعرقل تنفيذ كان يطمح اليه من اذى وضرر لإيران، والفضل كله يعود أولا
الى الله سبحانه، بتوفيقاته وألطافه، وحكمة القيادة والحكومة الإسلامية في ايران،
في معالجة المستجدات والطوارئ، بالآليات الواقعية، والثبات الدائم على المبادئ.
نجاح الدبلوماسية الاسلامية الإيرانية في
حماية حقوق شعبها، وظهورها في العالم بمظهر الملتزم بتعهداتها الدولية، مكنها من
اقناع دول غربية وشرقية بمصداقيتها وجدّيتها في الالتزام بتعهداتها، ووقوف اغلبها
وخصوصا الصين وروسيا والدول الغربية داعمة للاتفاق النووي، فلم تتأثر بشيء من
تهديدات أمريكا، حيث بدت اليوم مواقف أمريكا ضد إيران، معزولة عن الإجماع الدولي، شاذة
عنه، بعيدة عن تحقيق ما ترجوه منها، ويتمناها لها الكيان الصهيوني وأعراب الخليج
الداعمين بقوة لسياسات أمريكا العدائية ضد إيران الاسلامية.
ما يثير الاعجاب هنا أن الطرف الأمريكي اعتمد
على الكذب والخداع في تشويه صورة ايران الاسلامية، وبذل ما في وسعه من جهد من أجل
اسقاط النظام الاسلامي، وليس بمقدوره أن يزيد على ما وصل اليه، بما يعني أن
محاولاته الاخيرة باءت بالفشل وهو مدرك لكل ذلك، بينما اعتمدت ايران على مبادئها
الاسلامية في التعامل الدبلوماسي بعناوين الصدق والوفاء الواضحين، فلم ترى في جانب
من الجوانب مخلة بشيء من استقامة مسارها، وهذا وجه مشرق لإيران، يجب ان يفتخر به
الشعب الايراني، الذي ملك بثورته ونظامه وأهدافه عزته واستقلاله الحقيقيين، مقابل
شعوب عالم كثيرة، لا تزال يبحث عن الاستقلال والعزة والخروج من دائرة العمالة
والتبعية.
فهل ستكون العقوبات الاقتصادية، التي يأمل
ترامب تنفيذها ضد ايران في قطاع النفط، هي آخر أوراقه؟ أم إنه سيدخل في حماقة
جديدة قد تسرّع في اقالته من رئاسة بلاده؟ وقد بدأ المتربصون من الحزب الديمقراطي
يشحذون أسلحتهم، لإصابته في مقتل، لا يرى له من بعده أثرا في عالم السياسة
الامريكي الغريب الأطوار.