dimanche 30 septembre 2018

ماذا بقي لترامب؟



كان منتظرا أن يقف الرئيس الامريكي دونالد ترامب من على منبر الدورة 73 للجمعية العمومية للأمم المتحدة، مستجمعا ما فيه من استكبار كاذب، ليختزل في خطابه  كل العقد التي اجتمعت في عقله عن إيران الاسلام، فيرسلها وابل أكاذيب مكررة، وسيل تهديدات منتظرة، أظهرت منه استعلاء لم يسبقه فيه أحد من أسلافه، رغم حساسة أوضاعهم تجاهها حين فترات حكمهم، وما تتطلبه من مواقف، كانت تستوجب من وجهة نظرهم، تصعيدا خطابيا وعمليا، كالذي دخل غماره منذ أن تسلم ترامب رئاسة بلاده، مفتتحا إياه بحزم عقوبات جديدة، وخروج أحادي الجانب من الاتفاق النووي مع إيران 5+1، كان يعتقد حسابيا ان حلفاؤه الاوروبيين - بريطانيا فرنسا ألمانيا - سينقضون عهودهم، وينضمون اليه، لكنه خاب فيما أمّله منهم، وسقط من حسابه الاعتماد عليهم في هذا الملف.
الحلم الامريكي في الهيمنة على العالم، جسّده الرئيس الأمريكي الأخير، بفضاضة الرجل الابيض الاحمق، وكأن عرق أخبث راعي بقر، تلطخت يداه بدماء الهنود الحمر، قد ضربت في دونالد ترامب، فخرج نسخة غير مستحبة منه، أصبح العالم بشعوبه ودوله العاقلة، يرونه شاذا عن المنطق، توأما للتطرف، وتهديد السلم والامن العالمي.
هذه المرة بلغ الضرر والاذى دول العالم بأسره، حتى دول الخليج المحرّضة عادة ضد ايران، كالسعودية والامارات والبحرين، قد ارهقها ترامب بالابتزاز، واقتصادياتها قاب قوسين او ادنى من الانهيار، ولولا موارد النفط والحج والعمرة، لأصبحت في خبر كان، ولما كان لها اعتبار أصلا، في عالم الاعتبار والسياسة.
كما ان الدول الأوروبية الممضية على الاتفاق النووي مع ايران، قد حزمت امرها فيما يبدو- من خلال تحركاتها- من أجل حماية مصالحها، ومواجهة العقوبات الجديدة التي يعتزم ترامب تنفيذها في شهر نوفمبر، وفي مقدمتها حضر تصدير النفط الايراني الى دول العالم، والذي قوبل باستهجان دول، عبّرت منذ التلويح به عن اعتراضها له، واستمرارها في العمل بعقوده مع ايران كالهند والصين وكوريا، كما عبرت تركيا عن مواصلة تلقي امداداتها من الغاز الايراني.
وفيما يرى المراقبون دخول الرئيس الامريكي بتطرّفه ضد ايران، وتشدده المبالغ فيه تجاه الصين بفرض أداءات جمركية مشطّة على سلعها، وفتور في العلاقات مع روسيا الى حد يذكرنا بالحرب الباردة، فتح باب مغلق من عدم الاستقرار في العالم، قد يدفع الى اندلاع حرب مدمّرة في أي لحظة، وتحت أي مبرر يراه الأمريكيون وحلفاؤهم، وجّهت دول عدم الانحياز رسالة الى الجمعية العمومية للأمم المتحدة مطالبة فيها بتسجيلها وثيقة تخص مجلس الامن والجمعية العامة تناول عدد من القضايا المتعلقة بالأمن العالمي في مكافحة انتشار اسلحة الدمار الشامل، ادانة تحديث الاسلحة النووية، التي اتخذتها الولايات المتحدة الامريكية كسياسة نووية استراتيجية لها، منتقدة في نفس الوقت، بقية الدول النووية لعدم التزامها بتعهداتها، في اطار معاهدة حضر الأسلحة النوويةNPT  / 1968/1995) كما تطرّقت الرسالة الى الاتفاق النووي بين ايران والدول 5+1 داعية الى حمايته.
وقد جاء خطاب الرئيس روحاني متميّزا، بواقعية طرحه، ومنطقية ردوده على ادّعاءات الرئيس ترامب حول ايران، معتبرا ما لوّح به من تهديدات ضدها وضد دول العالم، التي تتعامل اقتصاديا معها ارهابا اقتصاديا، لا يختلف في شيء عن الارهاب التكفيري، وهما وجهان لعملة واحدة بصناعة أمريكية، لا ينافسها فيها أحد سوى الكيان الصهيوني.
طوق الخناق ضاق على سياسة الرئيس الامريكي، بعدم مجاراة الدول الاوروبية لها، ومعارضتها تماما، مما وضع صاحبها في عزلة دولية، من شأنها أن تعرقل تنفيذ كان يطمح اليه من اذى وضرر لإيران، والفضل كله يعود أولا الى الله سبحانه، بتوفيقاته وألطافه، وحكمة القيادة والحكومة الإسلامية في ايران، في معالجة المستجدات والطوارئ، بالآليات الواقعية، والثبات الدائم على المبادئ.         
نجاح الدبلوماسية الاسلامية الإيرانية في حماية حقوق شعبها، وظهورها في العالم بمظهر الملتزم بتعهداتها الدولية، مكنها من اقناع دول غربية وشرقية بمصداقيتها وجدّيتها في الالتزام بتعهداتها، ووقوف اغلبها وخصوصا الصين وروسيا والدول الغربية داعمة للاتفاق النووي، فلم تتأثر بشيء من تهديدات أمريكا، حيث بدت اليوم مواقف أمريكا ضد إيران، معزولة عن الإجماع الدولي، شاذة عنه، بعيدة عن تحقيق ما ترجوه منها، ويتمناها لها الكيان الصهيوني وأعراب الخليج الداعمين بقوة لسياسات أمريكا العدائية ضد إيران الاسلامية.
ما يثير الاعجاب هنا أن الطرف الأمريكي اعتمد على الكذب والخداع في تشويه صورة ايران الاسلامية، وبذل ما في وسعه من جهد من أجل اسقاط النظام الاسلامي، وليس بمقدوره أن يزيد على ما وصل اليه، بما يعني أن محاولاته الاخيرة باءت بالفشل وهو مدرك لكل ذلك، بينما اعتمدت ايران على مبادئها الاسلامية في التعامل الدبلوماسي بعناوين الصدق والوفاء الواضحين، فلم ترى في جانب من الجوانب مخلة بشيء من استقامة مسارها، وهذا وجه مشرق لإيران، يجب ان يفتخر به الشعب الايراني، الذي ملك بثورته ونظامه وأهدافه عزته واستقلاله الحقيقيين، مقابل شعوب عالم كثيرة، لا تزال يبحث عن الاستقلال والعزة والخروج من دائرة العمالة والتبعية.
فهل ستكون العقوبات الاقتصادية، التي يأمل ترامب تنفيذها ضد ايران في قطاع النفط، هي آخر أوراقه؟ أم إنه سيدخل في حماقة جديدة قد تسرّع في اقالته من رئاسة بلاده؟ وقد بدأ المتربصون من الحزب الديمقراطي يشحذون أسلحتهم، لإصابته في مقتل، لا يرى له من بعده أثرا في عالم السياسة الامريكي الغريب الأطوار. 



dimanche 23 septembre 2018

عندما يلتقي اللقطاء في حضانة الشيطان الأكبر



لقد كان لانتصار الثورة الاسلامية في إيران، بقيادة الإمام الخميني رحمه الله سنة 1979، أثر كبير في تنامي ثقافة المقاومة الإسلامية، ووعي الجماهير العربية بها، كحلّ أساسي لقضاياهم التحررية في لبنان وفلسطين، فنشأت حركاتها ( الجهاد 1982/ حزب الله 1985/ حماس 1987) مفتتحة عصرا جديدا، من مواجهة الكيان الصهيوني اللقيط، زعزع هيمنته وخلق معادلة جديدة، سفّهت حلمه في بسط نفوذه على المنطقة.
ولولا جهود ايران الاسلامية في نشر ودعم مشروع المقاومة، لأصبح الكيان الصهيوني منذ زمن، الحاكم المطاع في الشرق الأوسط، والمؤثّر فيما وراءه من دول، دسّت رؤوسها كالنعام في رمال التّبعية العمياء للشيطان الأمريكي، راضية بما ينثره عليها من فتات مساعدات، لن تحلّ له مشكلة من مشاكله الاقتصادية المعقّدة، وتزيد من سقوطه في مستنقع العمالة السّيء.
وازاء هذا التحوّل في الوعي والاداء الجماهيري، وادراك الشيطان الامريكي لمدى خطورته على مشروعه الاساس، في الهيمنة على الشرق الاوسط، اتجهت أدواته الى اطلاق دابة الارهاب التكفيري على دول وشعوب المنطقة، لتكون رديف الصهيونية في ضربها واخضاعها، وقد أثبتت الاراضي السورية، مدى متانة العلاقة والتعاون بين هاذين اللقيطين الشاذين، وسعيهما معا نحو هدف واحد، وهو تدمير مقدّرات الشعب السوري.  
لم يعد جديدا ولا مفاجئا، معرفة مصادر الارهاب ومن يديره، متنقّلا من مكان الى آخر، فالقضية اليوم لم تعد بذلك الخفاء القديم، الذي زوّر عند مقتل زعيم الخزرج المعارض سعد بن عبادة، والصقت الجريمة بالجنّ وجاؤوا على لسانها بشعر.
مصدر الارهاب فكريا، كان مكشوفا منذ بداية تأسيسه، وبريطانيا المعنيّة بغرس شجرته الخبيثة، قد عرفت أين توضع؟ وفي المكان الذي تهوي أفئدة المسلمين اليه، وبالسيطرة عليه يسهل انتشاره بينهم، واستئناسهم به كفكر لا يشكّون في إسلامه، طالما أنه قابض على مقدّسين هامّين من مقدسات الأمّة.
تأسيس مهّد بعد ذلك، لظهور دولة الإرهاب في الحجاز، وتاريخها يكفي مؤونة للدلالة على قبح سرائرها ووضاعة أصلها، بمجرّد الاطلاع على جناياتها بحق عرب الحجاز والعراق واليمن قديما زادها قتامة وسوء جرائمها الحديثة بدعمها وتمويلها الارهاب الوهابي التكفيري في سوريا والعراق وحربها العدوانية الظالمة بحق الشعب اليمني التي لا تزال تأكل الاخضر واليابس من أهله، على مرأى ومسمع مجتمع دولي متواطئ، قد صم آذانه عن نداءات الاستغاثة، التي أطلقتها أصوات حرة من منظمات انسانية، محذّرة من ابادة جماعية، يشترك فيها مرتزقة العالم وحصار مطبق - برا وبحرا وجوّا - على اليمن قد فتح باب المجاعة عليه منذ فترة.
ومع ذلك فقد أدّى صمود هذه الشعوب المستهدفة، إلى هزيمة مشروع الشرق أوسط الجديد، باندحار الإرهاب الوهابي عن العراق وسوريا، بإسهام إيران الإسلامية في كسر شوكته وتقزيم دوره، بوعي شعوبها المؤمنة بمبدأ المقاومة، ولم ييأس الشيطان الأمريكي الى اليوم من إسعافه، أملا في إبقائه حالة شاذة قائمة، مهددة لأمن واستقرار المنطقة، تكون خير عامل لسيطرة، وتمكّن الكيان الصهيوني اللقيط، من الشرق الأوسط، وبقية البلاد العربية والاسلامية.
التفات الشيطان الامريكي الى دور ايران الاسلامية، في انماء ودفع محور مقاومة الاستكبار العالمي، ودفعه قدما نحو هدفه النهائي، في اسقاط مشاريعه في المنطقة، وعلى رأسها تثبيت الكيان الصهيوني في فلسطين، ومنحه صلاحية الهيمنة الاقتصادية والسياسية، على دول وشعوب المنطقة، دفعه الى الوقوف في وجهها بشتى أنواع العقوبات والعراقيل، التي لم تترك مجالا، يمكن بواسطته الاضرار بها، الا اتخذته مسلكا يحول بينها وبين أهدافها المعلنة، في مواجهة الظلم والعدوان، المسلط على الشعب الفلسطيني، وشعوب الحاضنة لقضية تحرره.
فشل الشيطان الامريكي وحلفاءه في ما رسموه من خطط افضت بعضها الى الفشل الذريع دفعت به الى الايعاز الى ادواته من اعراب الخليج وهما تحديدا السعودية والامارات الى التلويح بالتهديد والوعيد بنقل المعركة الى داخل ايران كما صرح به وليّ عهد بني سعود ابن سلمان في شهر مايو الماضي، بوقاحة من احتمى نظامه ببريطانيا وأمريكا، وكانا الضامنين في بقائه مهيمنا على الحجاز، والمنطقة الشرقية، واجزاء من اليمن.  
زاده وضوحا كتابة أحد مستشاري ولي العهد الاماراتي على صفته بتويتر قال فيها: (ان الهجوم الذي استهدف عرضاً عسكرياً، ليس عملاً إرهابياً، لأنه ضرب هدفاً عسكرياً.) وأضاف متوعداً: (إنّ نقل المعركة إلى العمق الإيراني خيار معلن، وسيزداد خلال المرحلة القادمة).
مما يقيم الدليل على أن مخططا ارهابيا يستهدف ايران، بدأ بتنفيذه منذ الإعتدائين الذين استهدفا مقام الامام الخميني ومجلس الشورى الاسلامي في 7/6/2017، وتشترك فيه محميّات الشيطان الامريكي من دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والامارات، وطبيعي أن يكون الكيان الصهيوني شريكا فاعلا ومحركا، باعتباره مستهدفا من مشروع المقاومة الاسلامية الذي ترعاه ايران.
وما حصل في الاهواز من اعتداء ارهابي على استعراض عسكري، وبحضور مدني عربي من اهالي الاهواز، وفي يوم الدفاع المقدّس، وسقوط شهداء وجرحى فيه من العسكريين والمدنيين، يعطي دليلا على مدى عمق التورط الاعرابي في زعزعة أمن واستقرار ايران، بالغدر الذي عرف به عادة أهل الغدر والخداع والخبث، ويؤّكد من جديد حمق الأطراف المعادية لإيران الاسلامية، أعرابية كانت، أم أمريكية شيطانية، ومن شأنه أن يزيد من تلاحم الصف الداخلي في ايران، زاده بيان 30 من زعماء العشائر العربية المقيمة هناك، على مدى التزامهم وعزة انتمائهم الى الهوية الايرانية، وولائهم التامّ للوليّ والقائد المفدّى.
لم يعد مجديا تنصّل الشيطان من أعماله المتواصلة الساعية الى اسقاط النظام الاسلامي في  ايران، منذ ان تلقى صفعة في وجه غطرسته وكبريائه يوم احتجاز طاقم وكر جوسسته بطهران، وهو الى اليوم متخفّيا في بذل قصاري جهده للنّيل منه، مقدّما تجاربه وخبراته ومخططاته، الى اذرعه الخبيثة في المنطقة، بعد فشل مشروعه مع دكتاتور العراق صدام، لعلها تفلح فيما أخفق هو فيه، وها قد اتى الآن دور الأعراب الأشد كفرا ونفاقا، وسيكون مصيرهم أسوأ من صدّام، لأن الباطل لا يمكنه أن يعلو على الحق مهما أوتي من قوة.
ايران الاسلامية تدرك جيدا ما يتهددها، وتحتمل بحكمة الإستهدافات المعرّضة لها، من طرف أعداء اجتمعوا على شرّ،  لا يحرجهم ظهورهم بمظهر الخبث والدناءة، بقدر ما يحرجهم غضب سيدهم (ترامب) عليهم، قد تجردوا من الاسلام وأحكامه، ومن الانسانية وقيمها النبيلة، ورضوا بالنزول الى حضيض التوحّش والغدر والمكر، ولا يحيق المكر السيء الا باهله، وغدا قريبا سيجدون انفسهم في وضع لا يحسدون عليه، بما كسبت ايديهم.  
  



lundi 10 septembre 2018

تباين خطير بين تيار الثورة الحسينية وتيار التطبير



بعث خاتم الأنبياء والرسل صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام، مختتما مسيرة سلسلة الأنبياء ورسالاتهم، مبيّنا في قرآنه وما أوضحه من سنته قولا وفعلا وتقريرا، ما فتح بصائرنا على كمال الدين وتمامه، فلم يفرّط في شيء يحتاجه الانسان في معاشه ومآبه.
وما تلاه من سلسلة أئمة هداة، من أهل بيته الكرام البررة عليهم السلام، ما ثبّت فينا حقائق الإسلام، بمنأى عن التحريف والتأويل الخاطئ، خلال ثلاثة قرون، مثّلت بحق عصمة الدين، مما شاب غيره من الفرق من أهواء المضلّين.
فلم نكن نشك يوما، أن الطائفة المحقّة التي اختارت ووالت الامامة الالهية، نظرية حكم في الاسلام ومتعلقاته منهجا تشبّثت به، رغم كل المخاطر والتهديدات التي حفت بأهله طوال 14 قرنا، من حكام الظلم والجور في العصور الفارطة (أمويين، عباسيين، مماليك، عثمانيين)، والحالية في بلاد عدّة، كانوا يتتبعون أصحاب هذا الخط بلا شفقة ولا رحمة، وبكل قسوة يتعاملون معهم، قتلا وتمثيلا وتشريدا، هي التي تميّزت على غيرها بالبراءة من الظلم والظالمين، ومعاداتهم ومحاربتهم، كلما سنحت بذلك فرصة، نصرة للإسلام وعدالته.
وكلما نقترب من عشرة شهر محرم الأولى، بعاشورائها الحزينة، وشهر صفر ويومه العشرين، الذي يبسه الموالون ثوب الحداد كل عام، بحلول ذكرى أربعين الامام الحسين عليه السلام، كلما يخرج علينا أدعياء التشيّع بمظاهر مشينة، تبعث على الاستهجان والاستنكار، والبراءة منها ومن أصحابها، دفاعا عن منهج اسلامي أصيل، يراد تشويه واجهته العظيمة، وانزالها الى حضيض الممارسات الوحشية، التي لا علاقة للإسلام ولا التشيع لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها. 
مظاهر مزرية مقرفة، تمارسها وتتبناها جماعة، تدّعي حب الحسين عليه السلام وموالاته ومواساته، في محنته التي تعرض لها سنة 61  للهجرة، أثبتت بأفعالها تلك، أنها أبعد ما تكون عنه وعن ثورته الاسلامية، وقيمه العالية التي ثار من اجلها.
لم يدركوا حقيقة خروج الامام الحسين عليه السلام، ولا تصوّروا اهدافه الواضحة، حتى من خلال كلامه الذي لا لبس فيه (خرجت طلبا للإصلاح في أمة جدي)، فلم يقدّروا حجم تضحياته، ولا استوعبوا شيئا من مسيرته الى كربلاء بتسلسلها المكاني، من المدينة عندما عزم على مغادرتها، كفّا لطلب والي يزيد الفاسق في ارغامه على البيعة، فكانت زيارته الاخيرة لقبر جده صلى الله عليه وآله وسلم، معبّرة على رغبة في مواجهة الظلم وأهله، صلى ركعتين، ووقف بين يدي جده وقال: (اللهم هذا قبر نبيّك محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا ابن بنت نبيّك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهم إني أحب المعروف، وأنكر المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والاكرام، بحق القبر ومن فيه، الا اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى وللمؤمنين رضى) (1)
لم يستقر في مكة، تجنّبا من اراقة دمه فيها، واحتراما لشعائرها، فآثر الهجرة الى الله والجهاد في سبيله على الحج، ولما عزم على الخروج منها قال: 
(...لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا اجور الصابرين، لن تشذ ّ عن رسول الله لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقر بهم عينه، وينجز بهم وعده، من كان باذلا فينا مهجته، وموطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا مصبحا ان شاء الله.) (2)
ولما وصل العراق وبدأ يقترب من كربلاء، ورأى تخاذل الناس قال مبيّنا سبب حضوره الى هناك: (إني لم اخرج أشرا ولا بطرا ولا ظالما ولا مفسدا إنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين.) (3)
 متمثلا قول جده النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من رأى سلطاناً جائراً مُستحّلاً لحرام الله، ناكثا عهده، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قولٍ كان حقّاً على الله أن يُدخله مُدخله.) (4)
وقد رأى في أولئك الحكام انطباقا لصفة الجور فيهم فقال: (الاّ إنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وأنا أحقّ ممّن غيّر) (5)
وكان حقا عليه أن يكون المبادر الى الثورة والتغيير، فقام وهيأ أسباب نهضته، آخذا بعين الاعتبار، ما يمكن أن يترتب عليها من عبر ودروس، كحمل نسائه وبناته، ليزيد حركته بعدا معنويا وعاطفيا، من شأنه أن يحرّك القلوب نحوه، فتحرك مشاعرها اليه، وتتعاطى مع مأساته، بما تستلزمه مودة قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أجر.
ومضى الامام الحسين عليه السلام شهيدا، متميزا عن غيره من الشهداء، فهو سيد شباب أهل الجنة، ومن كان كذلك، حقيق به ان يكون سيد الشهداء، ومضى بعده أبناءه البررة عليهم السلام، يحيون ذكراه كل سنة، فلم يظهر منهم من إحياءاتهم ما يشبه شيئا، من هذا الذي ظهر في هذا الزمن، من أفعال تطبير، وزحف وأفعال أخرى، لا علاقة لها من قريب ولا من بعيد بالإمام الحسين عليه السلام، وثورته العظيمة الخالدة، وليست من الاسلام في قيمه الانسانية العالية، ولا من التشيع في واقعيته وعقلانيته، ولا حتى من الانسانية في شيء.
أفعال تصدى لها كبار المراجع والعلماء، وفي مقدمتهم الامام الخميني رضوان الله عليه، والامام الخامنئي دامت بركاته، فأدانوها وفندوا مزاعم مبتدعيها، تفنيدا لم يترك لهم مجالا علميا، يستدلون به على مشروعية أفعالهم، فلاذوا بكل دعوى عاطلة يستخفون وراءها، متمادين فيما انحرفوا اليه بتعنّتهم، وتبعهم على ذلك جهال بحقيقة الاسلام ومقاصده الرفيعة، وبالإمام الحسين عليه السلام وثورته العظيمة وأهدافها، فأعانوا بذلك أعداء التشيع عليهم، فلم يلتفتوا الى ذلك، واستمر بهم الانحراف كأنه دين لازم، أو حكم لا مفر من اقامته، وكأني بها صناعة أجاد بثها المتربصون، واتقن صياغتها المغرضون، مسيحية في أصولها التي جاءت منها، صهيونية في أهدافها الطاعنة في الثورة الاسلامية، وقيمها التي أسسها الامام الحسين عليه السلام، أمريكية غربية في زرع الفتن والبدع بين المسلمين، في خط ولاية أهل البيت عليهم السلام، رعاية وتحريضا واستدامة.
الى ادعياء بدع التطبير والزحف أقول: ان كنتكم بحق صادقين في نواياكم تجاه الاسلام المحمدي الاصيل، ورمز ثورته الامام الحسين عليه السلام، فهؤلاء اعداء التشيّع قد أعلنوا عليه الحرب، وهذه سوح الجهاد قد انفتحت لمن يرومه، وحريّ بدمائكم أن تسيل في سبيل الحق، كما سالت دماء الامام الحسين عليه السلام، فتمضون شهداء مقتفين أثره في الضحية الفداء، وليس التظاهر والادّعاء، وهذا نداء الدفاع عن حرم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم واهل بيته عليهم السلام قد ارتفع من جديد (هل من ناصر ينصرنا اهل البيت؟)، فبادروا اليه وحوّلوا تطبيركم الى جهاد وفداء وطاعة، ودعكم من هذه الافعال المشينة، فإنها من الهباء المنثور.
عتبي الوحيد على هؤلاء الذين قالوا إنهم علماء، وادّعوا أنهم مراجع، فوقفوا عند هذه البدع تاركين أبوابها مشرعة للجاهل والغافل، يرتادونها كل مناسبة، اعتقادا منهم بأنها طاعة مواساة، كأنّ علمهم لم ينفعهم في تمييز الطيب من الخبيث، خرجوا عن منهج الامام الحسين عليه السلام في الاصلاح وآثروا الصمت والسكوت، فلم يحسموا أمرها ويبيّنوا ضلالها، بل إن فيهم من شرعن لأتباعه، طريق السب والشتم والوقيعة في شخصيات اسلامية، ما من شأنه أن يحرّض على المؤمنين، يشعل فتنة عمياء صماء، زلا أشك  فمضى يعملها بقداسة، استئناسا بفتواه العاطلة وفكرته الباطلة، وليتهم يتوبون الى الله مما اقترفوه بحق الامام الحسين عليه السلام في تشويه منهجه، وتنفير الناس منه وابعادهم عنه.
المراجع
1 – بحار الانوار المجلسي ج 44 ص328/ شرح احقاق الحق السيد المرعشي ج 11ص600 / مقتل الحسين الخوارزمي ج1 ص 186
2 – بحار الانوار المجلسي ج44ص367 / الملهوف أو اللّهوف في قتلى الطفوف للسيد ابن طاووس ص52-53 / كشف الغمة للأربلي ج2 ص204
3 – بحار الانوار المجلسي ج 44 ص 329 / اللهوف ابن طاووس ص 3/ مقتل الحسين الخوارزمي ج1 ص 188/الشيخ عبد الله البحراني العوالم الامام الحسين ص179/
4 – البحار المجلسي ج44 ص 382/ تاريخ الطبري ج 4ص304  حوادث سنة 61. 
5 – الكامل في التاريخ ابن الأثير ج 3ص280/ الإمام الحسين باقر شريف القرشي ج3ص 80

  

jeudi 6 septembre 2018

ماذا يعني تغيير سلوك ايران في المنطقة؟



لا شك أن التغييرات الجذرية التي أحدثتها الثورة الاسلامية الايرانية، بنجاحها الباهر، في قطع دابر الاستكبار الغربي بزعامة أمريكا وبريطانيا من إيران، والذي إمتدّ ليصل مداه الى خارجها، تأثيرا في طلائع الشعوب الاسلامية، المنخرطة في العمل الاسلامي، والتي لم تتوقع يوما – رغم النصوص الصريحة والواضحة قرآنية ونبوية - أن تكون إيران صرحا إسلاميا عتيدا، يشعّ منه الدين الحنيف بكل شفافية، وتصل أفكاره الثورية ومبادئه الأساسية، في بناء نظام حكم إسلاميّ دستورا ومجالس شورى وصيانة وقيادة، يقدّم فيه نموذجا - جديرا بالإحترام والتقدير- الى أنحاء العالم، ليطرح الاسلام المحمّدي الأصيل، هذا الدين القيّم من جديد، في شكله المتناسق الحالي، نظام حكم عتيد، بإمكانه أن ينافس نظم الحكم الحالية، ويتفوق عليها.
تغييرات استمرت في أدائها الفكري العميق، لمفاهيم عديدة في الاسلام، لم تكن مكتملة وناضجة في عقول قادة وزعماء الحركات الاسلامية، في البلاد العربية خصوصا والاسلامية عموما، والتي كانت حكوماتها ولا تزال تأتمر بأوامر أمريكا ودول الغرب، وتنضوي تحت سياساتهم طاعة وتنفيذا، وان خالفت تلك السياسات مصالح الشعوب، فلا يهمّ طالما أن رضا أمريكا هو المطلوب.
لقد شكلت ايران في ثوبها الاسلامي، المناقض تماما لنظامها الدكتاتوري البائد، والذي اعلن منذ خطوتها الأولى بنظامها الجديد، أن أمريكا وكيانها الصهيوني، عدوان  لدودان للإسلام المحمدي: ( إن أشد عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا)، وعلى المسلمين أن يأخذوا ذلك في الحسبان، ويتخلّصوا من الهيمنة الامريكية وتوابعها، كما فعل الشعب الايراني بقيادته الربانية الحكيمة، ومن هنا بدأ صراع خفي بين ايران، بما تحمله كلمة الاسلام من معنى حقيقي وعميق، وامريكا زعيمة الحلف الصهيوني العالمي، فكانت العقوبات، والحصار، والحرب العسكرية بالوكالة، ومؤامرات العمل على اسقاط النظام باغتيال كوادره وعلمائه، وكانت وسائل الاعلام العالمية المسيطر عليها من طرف اللوبي الصهيوني، صاحبة أكبر نصيب في الدعاية الاعلامية المغرضة، التي لم تترك فسحة لإيران الاسلامية، للظهور بمظهرها الحقيقي المشرّف، البعيد عن التطرف ومعاداة الشعوب.
ورغم كل هذا التجييش والتحريض والتشويه والتآمر، مضت الجمهورية الاسلامية في ايران مستعينة بالله ومتوكلة عليه، مؤمنة بأن طريق الحق الذي سلكته، بقيادة العالم الرباني الامام الخميني رضوان الله عليه، هو الاختيار الأمثل، الذي رضي به قوم سلمان المحمدي، فكانت التوفيقات الالهية، عناوين نجاحات أدمغة وسواعد الشعب الايراني، المؤمنة بحسن خياراتها، وصواب منهجها، ما زاد من صدمة أعدائها وتزايد غيظهم - مع أذنابهم وعملاءهم- عليها.
اعداء ايران وعلى رأسهم امريكا مرتبكون اليوم، ماذا يفعلون لوقف هذا التطوّر السريع لشعب آمن بالإسلام شريعة منهاجا، وعملا بمقتضى ذلك الايمان الصادق بكل جد وتفان، وتمكن في ظرف وجيز من جني ثمار جهوده المضنية وتضحياته الكبيرة؟  

أمريكا التي لم تترك سبيلا لعرقلة ايران وعزلها اقليميا وافشال مشاريعها التنموية والتحررية وخنق فكرها الاسلامي الشمولي ومنعه من الانتشار، يأتي أحد أركان نظامها ليقول كلاما مناقضا لسياسات بلاده حيال ايران، فقد أجاب وزير دفاعها (ماتيس) رداً على سؤال طرحه أحد الصحفيين في ندوة صحفية عقدها، مفاده إذا كانت إدارة الرئيس (دونالد ترامب) استحدثت سياسة، لتغيير النظام الإيراني أو دفعه للانهيار»
قال ماتيس: «لم يتم وضع مثل هذه السياسة.. نريدهم أن يغيروا سلوكهم، فيما يخص عدداً من التهديدات، التي يمكن أن يشكلها جيشهم ومخابراتهم، ومن ينوبون عنهم ووكلاؤهم» ( نقلا عن رويترز).
اميركا والغرب غاب عن سياساتهم الصدق، واتسمت جميعها بالدهاء والخبث والكذب على شعوبهم وعلى العالم، فكل سياساتهم مغالطات ودعايات زيف وبهتان، وهكذا هي السياسة عندهم، تثعلب وتذيّب بشري، مخادعة للشعوب الضعيفة، وغنما لمقدّراتها، يرتكبون المخالفات الكبيرة، ويحرضون على الانظمة التي لا تستجيب لسياساتهم، وتتمرّد على أطماعهم، كما هي شان ايران وسوريا وفنزويلا وكوبا وكوريا الشمالية، واذا كانت امريكا بحسب ما عرف عنها، ضالعة في محاولات قلب انظمة الحكم في امريكا اللاتينية، فإن من المتوقع جدا أن يكون لها مخططات وخيارات، تسعى للتخلّص من النظام الاسلامي في ايران، وقد فعل خيرا الامام الخميني رضوان الله عليه، عندما قطع دابر طاقمها الدبلوماسي، وطرده خارج ايران بعد 444 يوما من احتجازه، فطهرت عاصمتها منه نهائيا، ومن سفارة الكيان الصهيوني، ضريبة كل ذلك كبيرة ولكن لا بأس فلكل مكسب شعب حرّ  تضحيات، وتلك سنّة الأحرار.
الغرب غير صادق مع ايران، فهو يحتضن بعنوان الحرية وحقوق الانسان، جماعات إرهابية، كمنافقي خلق، ذات السّجل الأسود، في ارتكاب جرائم اغتيال سياسية داخل ايران، والتي تتخذ من (أوفير سور واز Auvers-sur-Oise )  بضواحي باريس، مقرا رئيسيا لها، وتتلقى الدعم من أمريكا وفرنسا وبريطانيا وعملاؤهم من اعراب الخليج، ولا تزال هذه الدول ترى في هذه المنظمة الارهابية، حليفا معتبرا ضد النظام الاسلامي الايراني، وهي الأكثر حقدا عليه منهم.  
وحصل موقع «واشنطن فراي- بيكون The Washington Free Beacon» الإخباري الأمريكي، على خطة تظهر أن البيت الأبيض يعمل على قلب النظام الإيراني، بدعم الحركات الشعبية في الداخل، دون تدخل عسكري، ووفقًا للموقع المُقّرب من مسئولي البيت الأبيض، تشير الخطة المكونة من ثلاث صفحات، والتي تم تسليمها إلى أعضاء لجنة الأمن القومي، إلى أن ترامب سيسعى لتغيير النظام في إيران، من خلال برامج ديمقراطية، من شأنها إحداث فجوة أكبر، بين الشعب الإيراني... والنظام الديني الحاكم في طهران، وقد قامت بإعداد هذه الخطة، مجموعة الدراسات الأمنية، التي تعرف بـ«Security Studies Group»، ولديها علاقات وثيقة مع مسئولي الأمن في البيت الأبيض، بمن فيهم جون بولتون.
خيار دعم الحركات الانفصالية داخل ايران (كردستان/ بلوشستان) بعنوانه المزيّف ديمقراطية أمريكا والغرب، من اجل الهاء النظام عسكريا في وضعه الداخلي، والعمل على استقراره إن حصل تمرّد من هذا النوع، وبالتالي اشغال القوة العسكرية الايرانية في صراعات داخلية، والعمل الامريكي على هذه الخطة، قائم منذ سنوات عديدة، وهكذا يبدو المنطق الأمريكي مخادع وكاذب الى أبعد حد، فكل ما فعلته ايران بدافع عقيدتها الاسلامية الدعوة الى القطع مع الاستكبار العالمي، والضرب على أياديه العابثة، بثروات ومستقبل الشعوب العربية والاسلامية، والعمل على تقوية حركات مقاومة العدوّ الصهيوني في فلسطين ولبنان، وهذا ما تصنّفه أمريكا ارهابا خاصا بكيانها الغاصب، الذي تريد فرض وجوده، ونشر هيمنته على المنطقة، وهذا ما ترفضه ايران رفضا قاطعا، وتحذر الدول العربية من مغبة الانجرار وراءه، رغبا أو رهبا، وهو شرف لها في كل ما قدمته، ولا تزال تقدّمه، استجابة لواجب الاخوة والتعاون الاسلامي، الذين  يريد محقهما الغرب بكل ملحقاتهما.
محاولات امريكا اخضاع ايران أو اسقاط نظامها، بكل الخطط المطروحة عندها، لدى مجلس امنها ستبوء بالفشل الذريع، وستخرج ايران منتصرة على غطرسة غاشمة، تهيب منها اغلب دول العالم، ووقفت أمامها ايران وحدها موقف البطولة والثبات والرجولة والمبادئ.
  

samedi 1 septembre 2018

حركة النهضة بين الإرادة والمُراد


حركة النهضة بين الإرادة والمُراد
عندما كنا منتسبين لحركة الإتجاه الإسلامي - ونحن ثلة من الشباب المتوقد حماسة لاجل الاسلام- كانت الساحة الوطنية خالية من أي عمل إسلامي سياسي، ولم يكن فيها  سابقا سوى الحركات اليسارية والقومية، وبما أن بداية نشاة وتأسيسها، كان يستوجب فكرا إسلاميا شموليا، يستجيب لمتطلبات العصر، وإشكالات مجتمعاته، في الاعتقاد بان الدين لا شان له بسياسة ولا إقتصاد، وحتى جوانب من المسائل الإجتماعية لا يرى له فيها موقف معتبر - كما يعتقده اللائكيون ومعهم بعض أدعياء الإسلام - سببه تغييب متعمد للإسلام عصور طويلة، جعلت منه دينا قاصرا عن الإستجابة لأغلب متطلبات الحياة البشرية، والحال أن الإسلام جاء لأجل إصلاح ما أفسده الناس منها جميعها.
لقد كانت بداية الحركة الاسلامية محتشمة، وتكاد تنحصر في التبليغ المسجدي، بإقامة الدروس والمحاضرات، ولم تكن لها فعالية في الجامعة التونسية ولا وجود معتبر، إلا بعدما انفتحت قياداتها على الفكر الإسلامي الشيعي، وقرأوا مع طلائعهم المثقفة، مؤلفات شيعية متنوعة، في مقدمتها كتابات الشهيدين محمد باقر الصدر، ومرتضى مطهري، التي مكنتهم بعد استيعاب افكارهما في مجالات الاقتصاد، والرد على المذهبين الاقتصاديين الراسمالي الديمقراطي، والاشتراكي الشيوعي، والتغلب على منتسبيه في مناظرات طالبية، شهدتها المجاميع الطالبية، مكنت الاسلاميين من اكتساح الساحة الطلابية، وترجيح كفة الاسلاميين فيها..
جميع من عاصر تلك الفترة الحساسة، من ظهور الطلائع الاسلامية، المؤمنة بحتمية قيام النظام الاسلامي، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، يدرك فضل الفكر الشيعي على الحركة، في تمكنه وسيطرته شبه الكلية على الساحة الطالبية.
في الفترة التي تلت انتصار الثورة الاسلامية في ايران، وقيام نظامها، كانت كل المؤشرات توحي، بان الحركة قد اختارت السير على نهج الثورة الاسلامية، وكان اندفاع عدد من قياداتها يؤشر الى ذلك، من خلال تعابير وكتابات، اعطت للقراء ذلك اللانطباع، فعلى سبيل المثال، كتب احدهم في مجلة المعرفة، مقالا بعنوان: (الرسول ينتخب ايران للقيادة)
لكنه ولاسباب مختلفة، بعدت مسافة الانتماء الاختياري، ليتحول بسرعة الى حالة من الغربة، لتوجه قيادة الحركة، ويبدو ان  النفس التيمي  الوهابي قد سجل حضوره فاصطبغت ثقافة الجماعة بنزعة معاداة الشيعة وبدات مطبوعات الباكستاني احسان الهي ظهير الدعائية ضد الشيعة تظهر وتوزع بين افرادهم ...
يمكن اعتبار حركة الاتجاه الاسلامي، الام الإسلامية التي تفرعت منها تيارات عقائدية وفكرية أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، كجماعة اليسار الاسلامي في شخص مفكرها الدكتور حميدة النيفر بالعاصمة، والشيعة في شخص داعيتها الشيخ مبارك بعداش بقابس، وحزب التحرير في شخص داعيته محمد سعيد بقابس.
لكن عقلية الهيمنة واحتكار الساحة، والخوف من تزايد انسلاخ المنتسبين على حركة الاتجاه  الاسلامي، وأنانية عدم تقاسم الوجود على الساحة، والاعتقاد بأحقية الاحتكار بعامل السبق، خصوصا بعد تنازلها عن اسمها التاسيسي الى حركة النهضة، استجابة لطلب النظام في تغيير الاسم، عندما أستدرجت من طرفه، الى تقديم طلب تأشيرة حزب سياسي، وكانت الغاية خبيثة في جس نبض شعبيتها في الانتخابات البرلمانية ووقوف النظام على حقيقة حجمها، ونسب مناصريها التقريبية ومدى تاثيرهم على محيطهم، وشكلت نتائج الانتخابات صدمة للنظام البورقيبي، جعله يبادر لتزويرها أوّلا، وينقلب على نفسه في اعتبارها حزبا سياسيا، له الحق في ممارسة نشاطه العلني في البلاد، بعد قبول ملفه، ومنعرجا أمنيا خطيرا، سلكه النظام في تعامله مع قيادات ومنتسبي حركة النهضة، بشنّه حملة اعتقالات ومحاكمات صورية، كانت تهدف تقزيمها، وخلق حالة من الخوف الشعبي من الانتساب اليها.
قبل ذلك كان هناك استياء من خروج عدد من اعضاء ومنتسبي الحركة من العمل في صلبها الى فضاءات اخرى، وكان للشيعة نصيب منها، اغاظ الشيخ راشد وجماعته معتبرا إياه طعنا في الظهر، ودعاه الى تصريح مسجل ردّا على سؤال من أحد أعضائه، تعلّق بظهور الشيعة في تونس، فيه تهديد بالتصدي للمد الشيعي في تونس.
وزاد الشيخ المحامي عبد الفتاح مورو على ذلك بالقول، انّ الحركة - وهو أحد أركان تمثيلها - نبهت النظام البورقيبي الى خطورة الشيعة، كاشفا من مضمون كلامه علاقة ما بالنظام، لا يعلم طبيعتها ودرجة تعاملها معه سواه، أو من ارتبط بنشاطاته على ذلك الملفّ.
من هنا يتبين لنا مدى الشّحن الذي تعبأت به قلوب كبار قادة حركة النهضة، والذي بقيت آثاره الى الآن، تظهر من حين لآخر بأشكال مختلفة، من التحريض السياسي والامني ضد الشيعة، وتكفيرهم بالاستعانة بالجناح الوهابي في الحركة، ومعاداة الجمهورية الاسلامية في إيران بشكل متخفّ وآخر معلن، كالادعاء بانها تقتل السنة في سوريا - بينما هي تقدم خدمات جليلة سيذكرها التاريخ في محاربة الارهاب التكفيري- وتحميلها مسؤولية الاشراف ورعاية المدّ الشيعي في تونس والبلاد العربية، رغم خلوّ يدها من مستمسكات ذلك الادّعاء، وتعرّيه من الحقيقة، وتفنّده بالقول، انّ المدّ الشيعي ليس سوى اجتهادات أشخاص، بعد سلسة بحوث جادّة، أخذت بأعناقهم من خلالها، نصوص معتبرة - من صحاح ومدونات أهل السّنة أنفسهم - فرضت نفسها عليهم باتباع التشيع لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حركة شخصية لا علاقة لإيران بها، واتهام فيه مغالطة كبرى، يستوي في ميزانه الدعائي، باتهام النظام البورقيبي بأن حركة النهضة خمينيون.
واليوم يبدو أن السلطة وحب الرئاسة - مهما كانت الوجهة والنتائج - قد حملت الجناح المتطرف والاقصائي في حركة النهضة، الى عقد اتفاق تفاهم مبدئي مع السعوديين من اجل تحقيق هدفين،  الأول حماية أنفسهم من العدو الأخطر الامارات العربية، وما تخططه ضدهم على الساحة التونسية، والثاني مجاراة النظام السعودي في حملته الافريقية، التي صرح بها ولي عهده محمد بن سلمان، بالتصدي للفكر الاسلامي الشيعي ورمزه الأوّل ايران، ويعتقد السعوديون أنهم بأموال البترول والحج، بإمكانهم أن ينجحوا في وقف المدّ الشيعي، ولو بقتل المدنيين الشيعة في مناسباتهم وتجمعاتهم بدم بارد، كما وقع ذلك في (زاريا) بنيجيريا ..
اتفاقية تبدو صعبة التنفيذ في تونس لسببن، الاول قانوني وتشريعي حيث يضمن الدستور التونسي الباب الأول من مبادئه الأساسية العامة: الفصل السادس (الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات.. تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح، وبحماية المقدّسات، ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير، والتحريض على الكراهية والعنف، وبالتصدي لها.)
كما جاء في الباب الثاني من الحقوق والحريات: الفصل 21 (المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز. تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات، الحقوق والحريات الفردية والعامّة، وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم.) وهي حقوق مكفولة لكل تونسي، بمقتضى الدستور الجديد للبلاد، بقطع النظر عن معتقده وفكره وعليه يصعب فعل شيء بهذا الصدد يكبل حرية أي منهم الفكرية او العقائدية.
والثاني اخلاقي ودبلوماسي، لا يجيز قطع علاقات مع دولة، لم تتسبب لتونس في ضرر، ولم تكن حشرت نفسها في الشأن الداخلي للبلاد، ومع انعدام الاخلاق والالتزام بالمواثيق الدبلوماسية، قد تصطنع مسرحية لا لون لها ولا طعم، وقد تفوح رائحتها السعودية، استجابة لرغبتها في الاساءة الى ايران وتشويه صورتها، ودفع حسن نوياها بالسوء والادعاء الباطل، كما فعلت ذلك من قبل دول عربية كالمغرب والسودان  
هذا راي الجناح الوهابي في حركة النهضة، وما قد يسقط في شراك تنفيذه بشكل أو بآخر، لكن هل ينزل عنده بقية اعضائها، خصوصا اولئك الذين نهلوا من الفكر الشيعي السياسي والاقتصادي، فيفتحوا نار العداء والحقد على ايران، ويرضوا بان ينخرطوا في منظومة اعدائها عديمي الضمير والانسانية.
وهل وصلت درجة الخوف من اللوبي السعودي الاماراتي النافذ بتونس، استجابة حركة النهضة لرغباته الخبيثة والنزول عندها، وهي التي لا تعبر عن الاسلام والمدنية في شيء، بل انها استجابة لرغبات امريكا والصهيونية العالمية، التي عادت ايران منذ انتصار ثورتها وقيام نظامها، ولا تزال على ذلك المنوال تشتد فيه كل يوم، وتدعو عملاءها الى شدّ إزرها عليه، أملا في زحزحتها عن مبادئها الاسلامية المعلنة.  
وأخيرا، هل يجب علينا تذكير الشيخ راشد الغنوشي، بمبادئه التي ضمنها فكره الاسلامي السياسي، في حق الاختلاف وواجب وحدة الصف؟ ومنها بينها قوله: (الحرية هي مبدأ أساسي ومتأصل في الاسلام، إذ لا إكراه في الدين،  ولا تقدّم لبلداننا، ما لم تحصل شعوبنا على الحرية .. وعلينا تعلم إدارة الاختلاف وقبول الآخر) وما سيترتب عليه من مراعاة دستور البلاد الجديد، واحترام الاقليات فيه، والنظر الى ما يعرض على حركته من مقترحات بعين التقوى، والابتعاد عن السمسرة السياسية الخاسرة، ومراكنات المصالح، التي قد ترى حركته نفسها متورطة ومنخرطة فيها بأحد الدوافع المذكرة سابقا، وتعود بعدها بخفّي حنين، فهل تسقط هذا السلوك لعدائي المتعارض تماما مع أدبيات الفكر النهضوي، النخبة الخيرة في الحركة، هذا ما سنرى امكان تحققه  من عدمه لاحقا.