لم يسفر الصلح
الذي اضطر إليه الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية، بعد خذلان أصحابه له في حربه،
ولم يجد بدّا من النزول عنده، وهو يعلم أنه خدعة، فقد سقط من يديه القرار، ولم يعد
له خيار آخر، وهو واقعا اقامة حجة على المتآمرين والمتخاذلين أصحابه من جهة، وعلى البغاة
المحاربين له أتباع بني أمية من جهة أخرى، وفي نفس الوقت.
سارع معاوية
الى ارسال صحيفة بيضاء عليها ختمه، الى الامام الحسن عليه السلام، موافقا مسبقا
على ما سيشترط عليه فيها. (1)
خلاصة ما جاء
فيها: تسليم الأمر الى معاوية على شرط ان يعمل بكتاب الله وسنة رسوله.(2)وأن
يكون الامر للحسن من بعده.(3) فان حدث به حدث فلأخيه الحسين (4) وليس
لمعاوية أن يعهد به الى احد.
(5) وأن
يترك سبَّ أمير المؤمنين على المنابر، والقنوت عليه بالصلاة. (6)وأن
لا يذكر علياً الا بخير. (7) على
أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللّه، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن
يؤمّنَ الاسود والاحمر، وان يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع احداً
بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق بإحنة. (8)
وعلى
أمان أصحاب عليّ حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه، وأن اصحاب علي
وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وان لا يتعقب عليهم شيئاً،
ولا يتعرض لاحد منهم بسوء، ويوصل الى كل ذي حق حقه، وعلى ما أصاب اصحاب عليّ حيث
كانوا. (9) وعلى
أن لا يبغي للحسن بن علي، ولا لأخيه الحسين، ولا لاحد من أهل بيت رسول اللّه،
غائلةً، سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم، في أفق من الآفاق. (10)
غير أن معاوية لم
يكن في صلحه مع الإمام الحسن سوى مخادع كما فعل من قبل في رفع المصاحف، وما خلّفه
من تفرّق أهل الحق عن حقّهم، واجتماع أهل الباطل على باطلهم، وسرعان مأ أظهر طليق
النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ما كان يخفيه من نوايا، فقام بعد دخوله مدينة
الكوفة، وعند خطابه بمسجدها التصريح علنا بما كان يخفيه فقال: " أتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت
أنّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون؟ ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم وألي رقابكم. ثمّ انتهى
الى القول: ألا وإنّ كلّ شرط وشيء أعطيت الحسن بن علي تحت قدمي هاتين." (11)
هكذا اذا أنهى معاوية الصلح بمجرّد دخوله الكوفة،
ثم قام بعد ذلك بمخالفته تماما، وعاش المسلمون الموالون لأهل البيت عليهم السلام
من بعده ارهابا أمويا، لم يشهده تاريخ الاسلام مثيلا، وضاقت على هؤلاء الممتحنين
الأرض بما رحبت، واشتد الامر خصوصا على أهل الكوفة، بحيث لم يبقى بيت كان ينعم نسبيا
بالأمن والاستقرار قبل ذلك، الا أصيب في بعض أهله، ان لم يكن جلّهم، فسجن من سجن،
وقتل من قتل، وشرد من شرد، وجلا من الكوفة من أغتنم فرصة للنجاة بنفسه، فهام في
الأرض شرقا وغربا، لا يدري الى أي مستقر سينتهي به جلاؤه.
ومع تزايد
الإرهاب السلطوي الأموي، وتولي يزيد الفاسق للسلطة، توريثا من بعد أبيه، سعى هذا
الأخير الى أخذ البيعة غصبا من الإمام الحسين عليه السلام، فأوعز الى عامله على
المدينة، ان يحتال بأخذ البيعة من الإمام الحسين عليه السلام، بأي طريقة كانت، ولو
اقتضى الأمر باستعمال القوة.
ومن أجل أن يمر
الأمر السلطوي الأموي في كنف السّرّية، دعا والي المدينة الامام الحسين عليه
السلام ليلا الى دار الإمارة، وعرض عليه البيعة ليزيد، فرد عليه:
" إِنَّا أَهْلُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَمَعْدِنُ الرِّسالَةِ،
وَمُخْتَلَفُ المَلائِكَةِ، وَمَحَلُّ الرَّحْمَةِ، بِنا فَتَحَ اللهُ، وَبِنا
خَتَمَ، وَيَزِيدُ رَجُلٌ فاسِقٌ، شارِبٌ لِلْخَمْرِ، قاتِلُ النَّفْسِ
المُحَرَّمَةِ، مُعْلِنٌ بِالفِسْقِ، وَمِثْلِي لا يُبايِعُ مِثْلَهُ، وَلَكِنْ
نُصْبِحُ وَتُصْبِحُونَ، وَنَنْظُرُ وَتَنْظُرُونَ، أَيُّنا أَحَقُّ بِالخِلافَةِ
وَالبَيْعَةِ." (12)
علم الإمام
الحسين عليه السلام أنه ليس متروكا في مدينة جده، حتى يبايع يزيدا الفاسق أو يقتل،
فقرر الخروج من المدينة - تفاديا لمواجهة هناك رآها غير مناسبة - قاصدا مكة في 27
رجب سنة 60 للهجرة، معلّلا خروجه بتعبير شامل، يعتبر منطلق الثّورة الإصلاحية التي
بدأها، قائلا: "وإنِّي
لم أخرج أشِراً ولا بَطِراً، ولا مُفسِداً ولا ظَالِماً، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمَّة جَدِّي صلى الله عليه وآله وسلم، أُريدُ أنْ آمُرَ بالمعروفِ وأنْهَى عنِ المنكر، وأسيرُ
بِسيرَةِ جَدِّي، وأبي علي بن أبي طَالِب." (13)
وقبل ان يغادر المدينة ذهب لوداع جدّه
المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فصلى عنده باكيا، ثم دعا الله مستعبرا فقال: "اللَّهُمَّ
هَذا قَبْر نَبيِّك مُحمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وأنَا ابنُ بنتِ نَبيِّك
صلى الله عليه وآله وسلم، وقد
حَضَرني مِن الأمرِ مَا قد عَلمت، اللَّهُمَّ إنِّي أحِبُّ المَعروف، وأنكرُ
المُنكَر، وأنَا أسألُكَ يَا ذا الجَلال والإكرام، بِحقِّ القبرِ ومن فيه، إلاَّ
مَا اختَرْتَ لي مَا هُولَكَ رِضىً، ولِرسولِك صلى
الله عليه وآله وسلم رِضَى."
(14)
وكان خروجا صائبا، غلبت عليه مصلحة الأمة، في قيادة مؤهّلة للعمل بشعيرة الأمر
بالمعروف والنّهي عن المنكر، بعد أعمال التحريف التي بدأها معاوية، محاولة منه لتغيير
معالم الدين وإرغام الناس عليه، وما استتبعه من انتشار الظلم والحيف بحق الأمة،
وظهور طبقة مستثرية على حساب عامة الناس، هي على الغالب من الأسرة الحاكمة،
وحاشيتها المنتفعة بالولاء لها
وكان وصول الامام الحسين السلام الى مكة في 20 من شهر شعبان، فأقام هناك
الى يوم التروية 8 من ذي الحجة، وكان عازما كعادته على أداء مناسك الحج ككل سنة، لكن
الطّلب عليه تكاثر، وخشي أن يقع اغتياله في الحرم فخيّر من أجل أن لا يسفك دمه هناك، الخروج من مكة قاصدا الكوفة، بعدما
وصلته آلاف الرسائل من زعمائها، تستحثّه فيها على القدوم اليهم، وحتى يهيئ لرحلته أبعادها
التبليغيّة، ويمهّد لها أسبابها، قام في أهل مكة والوافدين إليها من الحجيج خطيبا،
ومن ضمن ما قاله عليه السلام:
" أيّها الناس إنّ رسولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وآله وسلم قالَ: " مَن
رأى منكُم سُلطاناً جائِراً مُستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعَهدِه، مُخالِفاً لسنّةِ
رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يغِيرْ عليهِ بقولٍ ولا
بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه، ألاَ وَإنَّ هؤلاءِ قَدْ لزِمُوا طاعَةَ الشَّيطانِ، وَتَرَكُوا طاعَةَ
الرَّحْمنِ، وَأظْهَرُوا الفَسادَ، وَعَطَّلُوا الحُدُودَ، واسْتَأثَرُوا
بِالْفَيْءِ، وَأحَلُّوا حَرامَ اللهِ، وَحَرَّمُوا حَلالَهُ، وَأنا أحقُّ مَنْ
غيري لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قد أتَتْنِي كُتُبُكُمْ،
وقَدِمَتْ عليّ رُسُلُكُمْ ببَيْعَتِكُمْ؛ أنَّكُمْ لا تُسْلِموُنِي ولا
تَخْذُلُوني، فَإنْ تَمَمْتُم عَلى بَيْعَتِكُم تُصِيبُوا رُشْدَكُمْ. (15)
ثم إن الامام الحسين خرج قاصدا كربلاء، وكان وصوله اليها في اليوم الثاني
من المحرم سنة 61
من حقّنا هنا أن نتساءل أين هم البقية الباقية ومن الصحابة وأولادهم؟ وأين
هم أهل المدينة عامة ؟ لماذا لم ينصروا الامام الحسين عليه السلام في موقفه الصائب،
في معارضة مسالة توريث يزيد الفاسق وولايته عليهم، وهم يعلمون قبل غيرهم من هو
الامام الحسين عليه السلام، وهو الذي عاش بينهم علما عاليا من أعلام أهل بيت نبيهم
صلى الله عليه وآله وسلم؟
ذلك الخذلان المفضوح الذي لقيه الامام الحسين عليه السلام، بصورة أكبر في
مكة، سواء من أهلها، كأنهم ورثوا ضغينته من آبائهم وأجدادهم الموتورين، وان عذرنا
أهلها بما سكن في قلوبهم من ذلك الحقد الدفين، الذي يحال بينهم وبين واجب نصرة ابن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإننا لن نعذر حجاج بيت الله الحرام، الذين
خيّروا أداء مناسك الحج، على الخروج مع الامام الحسين عليه السلام في ثورته
الاصلاحية، لتقويم إعوجاج مسار الحكومة، وإصلاح نظامها، على النحو الذي يتطابق مع
كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد بيّن الامام الحسين نفسه السبب الرئيسي لخذلان الناس له فقال: "
الناس عبيد الدنيا، والدّين لعق على السنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا
مُحّصوا بالبلاء قلّ الدّيانون." (16) وهو ما يفسّر لنا أن قضية الاعتقاد
والانتماء، ابعد ما تكون لفظا عن الواقع، فلا يجلّيها سوى العمل والبذل والتضحية،
ومن كان يعتقد أنه بصلاته وصيامه وزكاته وحجه، قد ربط علاقته مع الله، دون أن يكون
مع الحق، في مقارعة الظلم وأهله، مهما بلغ طغيانهم، فهو مخطئ تماما، وعليه أن
يراجع نفسه قبل فوات الأوان.
وأعتقد دون شك، أن خروج الامام الحسين عليه السلام، كان في مسعاه أن يأمر
بالمعروف وينهي عن المنكر، خروجا بالحج نفسه الى حيث توجّه هو، فمن احرم مع الحسين
عليه السلام في دعوته، وخرج معه في هجرته الى الله، كان كمن طاف بالبيت العتيق، بل
واحسن وأجزل عطاء، ومن سعى في خدمة الامام الحسين عليه السلام كان كأفضل مما سعى
بين الصفا والمروة، ومن وقف في صف الامام الحسين عليه السلام يوم العشر من
المحرّم، كان أفضل ممن بقي للوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة من تلك السنة، ومن
رمى مع الحسين عليه السلام بسهم أو برمح، او ضرب بسيف فذلك هو الجهاد في أعلى
مراتبه، قد اجتمع فه الفداء مع مودة الأطهار عليهم السلام، فلا رجم رمزيا للشيطان
يومها، ويزيد الفاسق شيطان الإنس، يحكم في الأمة بالظلم والعدوان، مستهترا بقيم
الاسلام، معلنا الفجور وشرب الخمور، فمن كان يعتقد انه قد ادّى مناسكه في ذلك
العام فقد اخطأ الهدف وأضاع الطريق، لقد كان الحج عامها الى كربلاء فقط، فمن وصلها
وكان مع الامام الحسين عليه السلام، فأعظم به من حج رمي فيه الشيطان الحقيقي، ومن
أجل اسقاطه وخلاص الأمّة منه، نحرت فيه رموز الطّهر وعناوين الوفاء، بأيد أخبث
الناس، وسبي فيه العفاف بواسطة أرذل الخلق، تلك هي التضحية الكبرى، وذلك هو الفداء
العظيم.
المراجع
1 – تاريخ الطبري ج6ص93 /الكامل
ابن الأثير ج3ص 162
2 – المدائني فيما رواه
عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج ج4ص8 /
فتح الباري في شرح صحيح البخاري فيما رواه عنه ابن عقيل في النصائح الكافية لمن
تولى معاوية ص 156 / بحار الأنوار المجلسي ج10ص115
3 – تاريخ الخلفاء للسيوطي
ص 194/ البداية والنهاية ابن كثير ج 8 ص 41/ والإصابة ابن حجر ج 2 ص 12 و13/ الإمامة
والسياسة ابن قتيبة ص 150/ دائرة المعارف الاسلامية لفريد وجدي ج 3 ص 443
4 – عمدة الطالب لابن
المهنا ص 52
5 – المدائني فيما يرويه عنه في شرح النهج ج 4 ص 8/
بحار الأنوار المجلسي ج 10 ص 115
6 – أعيان الشيعة محسن
الأمين ج 4 ص 43
7 – مقاتل الطالبيين أبو
الفرج الاصفهاني ص 26/ شرح نهج البلاغة ج 4 ص 15
8 – مقاتل الطالبيين أبو
الفرج الاصفهاني ص 26/ ابن أبي الحديد ج 4 ص 15/ بحار الأنوار المجلسي ج 10 ص 101
و115/ الإمامة والسياسة ابن قتيبة الدينوري ص 200
9 – تاريخ الطبري
ج 6 ص 97/ الكامل ابن الاثير ج 3 ص 166/ مقاتل الطالبيين أبو الفرج الاصفهاني ص
26/ شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 4 ص 15/ بحار الأنوار المجلسي ج 10 ص 115/
علل الشرائع الصدوق ص81 والنصائح الكافية ص 156
10 – بحار الأنوار المجلسي ج 10 ص 115/ النصائح
الكافية ص 156
11 – شرح نهج
البلاغة ابن أبي الحديد ج 16 ص 15/ مقاتل الطالبيين أبو الفرج
الأصفهاني ص 45
12 – الفتوح أحمد بن اعثم الكوفي ج5ص18
13 – بحار الأنوار المجلسي ج 44 ص329
14 – بحار الأنوار المجلسي ج44 ص 328
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire