بقلم:
محمد الرصافي المقداد
الى من يتظاهرون بحب الحسين عليه السلام، فيسيلون دماءهم
تطبيرا، هذه ساحات قتال اعداء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم مفتوحة،
فليبادروا الى الالتحاق بركب المجاهدين على الجبهات، فالدماء التي يرهقونها هدرا
تظاهرا، من الأجدر أن ترهق هناك، لأن الامام الحسين عليه السلام، لم يقدّم نفسه إلا
فداء لله ودينه، فمن كان حسينيا بحقّ، فليوطّن نفسه في صف أولئك الذين لبّوا نداءه،
وليس في صف المطبّرين العابثين المسيئين.
لم يوجد شخص بعد شهادة الامام الحسين عليه السلام، أكثر
احساسا وشعورا وتفاعلا، بالأحزان القلبية العميقة، والتعبير المشبع بالأشجان، من
الشاهد الوحيد الذي أبقاه الله، ليستمر خط ولايته على الأرض، ويكون دليلا على ما
يجب أن يرى منه، بمناسبة ذلك اليوم خصوصا، وبقية أيام حياته، وهو المثال الصادق
للتفاعل إيجابا مع مسيرة أبيه الحسين عليه السلام، والناقل لثقافتها وأهدافها الإسلامية،
في الإصلاح باليد واللسان.
فلم نعرف من خلال سيرته أنه حاد عن المعقول، في اظهار
الحزن والبكاء، كلما حلّ بذاكرته مشهد من مشاهد اليوم العاشر من المحرم سنة 61
هجرية، وأنى لذاكرته أن تنسى المأساة التي حلت به وبأبيه وأهله، فهل تراه لا يتذكر
مقتل مسلم بن عقيل رضوان الله عليه، بالطريقة البشعة التي جرت عليه في الكوفة، أم
تراه لا يتذكر مقتل ابناء عمومته القاسم وعون ويحي، واخوته علي الأكبر عبد الله
الرضيع عليهم السلام، أم تراه ينسى مقتل أعمّامه عبد الله وجعفر وعثمان، أن تراه لا
يتذكر عمه العباس عليه السلام، وهو يقاوم كتائب العدوّ، من أجل قربتي ماء أراد
جلبها للأطفال الذين أضناهم العطش، أم تراه لا يتذكر مقتل أبيه الامام الحسين عليه
السلام، وكيف يتسنّى له أن ينسى وهو الامام المعصوم، المرهف الحس على غيره،
المُشاطر لهم آلامهم، فكيف به بأهل بيته؟ كيف به روحي فداه، وقد عايش كل تلك
المصائب، لحظة بلحظة، وفصلا بعد آخر، إن لم يُطل بذلك كله وهو حاضره بكل مشاعره -
رغم مرضه الذي أوهن جسده الرشيف- زمن نصف يوم، فإن مدى سوق الاعداء له، ولعمّته ونساء
ابيه واخواته، مصفّدين في الحديد سبايا الى الكوفة، ومنها الى دمشق، فُرجة للقاصي
والداني، قد شقّ عليه ذلك أكثر- وهم أهل بيت عزّ لم يتعوّدوا على تلك الحال من
الهوان على الناس - ولو افتدى تلك الوضعيّة بنفسه، لما تردد في الفداء.
لقد جاءنا من الاخبار، ما يفيد شيئا من ذلك الحزن العميق،
الذي غشي قلب الامام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، فقد ذكروا أنه حزن
وبكى بعد الحادثة أربعين سنة، بمعنى يشير الى أن تلك المدة، هي الباقية من حياته
بعد أبيه عليه السلام، كان لا يتمالك من البكاء كلما قدم له الماء والطعام، فلم
يرى فرحا ولا ضاحكا خلالها أبدا.
فعن الامام الصادق عليه السلام: "أَمَّا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه
السَّلام فَبَكَى عَلَى الْحُسَيْنِ عليه السَّلام عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ
أَرْبَعِينَ سَنَةً، مَا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَعَامٌ إِلَّا بَكَى، حَتَّى
قَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ
مِنَ الْهَالِكِينَ. قال: (إنما أشكو بثي وحزني الى الله
وَأَعْلَمُ
مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ (1) إِنِّي لَمْ أَذْكُرْ مَصْرَعَ بَنِي فَاطِمَةَ إِلَّا
خَنَقَتْنِي لِذَلِكَ عَبْرَةٌ". (2)
و عَنِه أيضا عليه السَّلام: "أَنَّ زَيْنَ الْعَابِدِينَ
بَكَى عَلَى أَبِيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، صَائِماً نَهَارُهُ، قَائِماً لَيْلُهُ،
فَإِذَا حَضَرَ الْإِفْطَارُ، جَاءَ غُلَامُهُ بِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ،
فَيَضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَقُولُ: كُلْ يَا مَوْلَايَ.
فَيَقُولُ: قُتِلَ ابْنُ رَسُولِ
اللَّهِ جَائِعاً، قُتِلَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ عَطْشَاناً، فَلَا يَزَالُ
يُكَرِّرُ ذَلِكَ وَ يَبْكِي حَتَّى يُبَلَّ طَعَامُهُ بِدُمُوعِهِ، وَيُمْزَجَ
شَرَابُهُ بِدُمُوعِهِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ عَزَّ وَ
جَلَّ".(3)
ولم
يكن بقية ائمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام، أقلّ حزنا ممن شاهد لوعتهم وحضر
مصيبتهم، فإنهم وان تعددت أسماؤهم، قد اتحدت خصالهم ومشاعرهم، في ادراك واحساس
واحد.
عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَدُمُوعُهُ تَنْحَدِرُ
عَلَى عَيْنَيْهِ كَاللُّؤْلُؤِ الْمُتَسَاقِطِ.
فَقُلْتُ: مِمَّ بُكَاؤُكَ؟ فَقَالَ: " أَفِي غَفْلَةٍ أَنْتَ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْحُسَيْنَ
عليه السلام أُصِيبَ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ"؟ فقلت: مَا قَوْلُكَ فِي صَوْمِهِ؟
فَقَالَ لِي: " صُمْهُ
مِنْ غَيْرِ تَبْيِيتٍ، وَأَفْطِرْهُ مِنْ غَيْرِ تَشْمِيتٍ، وَلَا تَجْعَلْهُ
يَوْمَ صَوْمٍ كَمَلًا، وَلْيَكُنْ إِفْطَارُكَ بعد صلاة الْعَصْرِ بِسَاعَةٍ
عَلَى شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ ذَلِكَ
الْيَوْمِ تَجَلَّتِ الْهَيْجَاءُ عَنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم" . (4)
عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَحْمُودٍ، قَالَ: قَالَ الرِّضَا عليه السَّلام: "إِنَّ الْمُحَرَّمَ شَهْرٌ كَانَ أَهْلُ
الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ فِيهِ الْقِتَالَ،
فَاسْتُحِلَّتْ فِيهِ دِمَاؤُنَا، وَهُتِكَتْ فِيهِ حُرْمَتُنَا، وَ سُبِيَ
فِيهِ ذَرَارِيُّنَا وَ نِسَاؤُنَا، وَأُضْرِمَتِ النِّيرَانُ فِي مَضَارِبِنَا،
وَانْتُهِبَ مَا فِيهَا مِنْ ثِقْلِنَا، وَلَمْ تُرْعَ لِرَسُولِ اللَّهِ حُرْمَةٌ
فِي أمرنا إِنَّ يَوْمَ الْحُسَيْنِ أَقْرَحَ جُفُونَنَا، وَأَسْبَلَ دُمُوعَنَا،
وَأَذَلَّ عَزِيزَنَا بِأَرْضِ كَرْبٍ وَبَلَاءٍ، أَوْرَثَتْنَا الْكَرْبَ وَالْبَلَاءَ
إِلَى يَوْمِ الِانْقِضَاءِ. فَعَلَى مِثْلِ
الْحُسَيْنِ فَلْيَبْكِ الْبَاكُونَ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ عَلَيْهِ يَحُطُّ
الذُّنُوبَ الْعِظَامَ ".
ثُمَّ قَالَ عليه السَّلام:
كَانَ أَبِي إِذَا دَخَلَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ لَا يُرَى ضَاحِكاً، وَ كَانَتِ
الْكَآبَةُ تَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَمْضِيَ مِنْهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، فَإِذَا
كَانَ يَوْمُ الْعَاشِرِ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ مُصِيبَتِهِ وَ حُزْنِهِ
وَ بُكَائِهِ، وَ يَقُولُ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ " .(5)
وبمراجعة
عشرات الروايات التي جاءتنا من كتبنا المعتمدة ومن غيرها، نرى أن ما يمارس منذ قرنين
تقريبا من تطبير، وأعمال منفرة مقززة للأنفس المحترمة، لا أثر لها ولا وجود في
حياة الأئمة الاطهار عليهم السلام، حتى على سبيل المجاز، فهي بعيدة كل البعد عن
ثقافة الوعي الإسلامي، التي تجسّد الأهداف العظيمة، لثورة الامام الحسين عليه
السلام في إصلاح أمة جدّه، ثورة فريدة يحق للبشرية جمعاء أن تنهل منها، دون حاجز
يحول بينها، من المعيب تدنسيها وتشويهها على ذلك النّحو المقرف، وما أسفر عليه من
نفور غير المسلمين الشيعة، وغيرهم من بقية العالم من التشيّع.
أول
روايات تحريم إيذاء النفس، والبروز بأعمال الجاهلية، تعبيرا بعدم القبول بقضاء
الله وقدره، كانت ضمن وصيّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابنته فاطمة عليها
السلام: "إذا أنا مت فلا تخمشي عليّ وجها ولا تنشري عليّ شعرا ولا تنادي
بالويل ولا تقيمي عليّ نائحة." (6) فككيف يجوّز لمن من رأى في التطبير حلّية،
أن لا يلتفت الى كل هذه النصوص، فيتبرأ من افعاله ويقرّ بعدم مشروعيته؟
إنّ أكبر
ما ابتلي به التشيع في عالمنا الإسلامي، هي الإساءات الصادرة ممن يعتقدون أنفسهم
اتباعا لأئمة الهدى عليهم السلام، من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتي يرونها تمثل مظهرا صالحا، للتعبير عن
الولاء والوفاء، لهؤلاء السادة الأطهار، جهلا بحكم ما قاموا به أو دراية، منهم من
أخذوها وراثة - مع انها حديثة العهد - بعدما وجدوا آباءهم مقيمين عليها، دون أن
يبحثوا عن مصدرها من أين جاءت؟ أو يكلّفوا نفسه بسؤال ذوي العلم والتقوى عن مشروعيتها،
ومنهم من اتبعها تقليدا لأصحابها وذوي التأثير عليه، اعتقادا منهم بأن كل ما يرونه
معمولا به من طرفهم، يندرج ضمن أدبيات التّشيع لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذوا به مطمئنين يطلبون به القرب والأجر،
ويعبّرون من خلاله عن منهج، وجدوا أنفسهم فيه بلا أدنى بحث ولا عناء.
ولو
أن هؤلاء المغرر بهم، والمشتبه عليهم قيام الحسين عليه السلام، ودوافعه الاصلاحية
في مسيرته الثورية، التفتوا بشيء من التعقّل الى ممارساتهم، وسألوا أنفسهم لماذا
يقومون بتلك الافعال المشينة؟ - والتي تزايدت أخيرا بعد دروج التطبير (7)لتلتحق
بها بدع أخرى، ما انزل الله بها من سلطان، كالزحف المقدس، والمشي على الجمر، وطلاء
الوجه او الجسم كله بالطين- أهي تعبير عن مواساة وحزن؟ فإن كان كذلك فإن إسالة
دمعة واحدة، هي أبلغ للحزن من تلك الافعال كلها، واعتقد جازما أنهم أعجز من أن
يسيلوا دمعة واحدة، على مصيبة الامام الحسين عليه السلام، فضلا عن أن يسيلوها خشية
من الله.
وإن
سألتهم هل أنتم فيما تقومون به، مستندون الى نص واحد صحيح، ثابت عن النبي ، أو أحد
الائمة الاطهار عليهم السلام، تراهم بأشباه علمائهم يتذرّعون بسخافات لا علاقة لها
بهدي آل محمد، وما نقلوه عن السيدة العظيمة عقيلة بني هاشم زينب الحوراء عليها
السلام، من انها نطحت راسها على مقدم المحمل، حتى سال الدم من وراء حجابها، وهنا
يسقط الخبر بمن إدّعاه، فلا مطّلع على حال زينب عليها السلام في ذلك الوقت، وما
أثبته المحدّثون عنها، أنها عملت بنصيحة اخيها الإمام الحسين عليه السلام، الذي
قال لها:" يا أختاه أقسمت عليك فأبرّي قسمي، لا
تشقّي عليّ جيبا، ولا تخمشي عليّ وجها، ولا تنشري عليّ شعرا ولا تدعي عليّ بالويل
والثّبور إذا أنا قُتلت." (8)
فوفّت
بقسمه أيّما وفاء، حيث وقفت في كربلاء، صابرة محتسبة صامدة كالجبل الرّاسي، شاهدة
على تضحيات إخوتها، وابناء اخوتها، وابناء عمومتها، وابنيها عون ومحمد واصحاب
أخيها شيعة أهل البيت حقا، يتتابعون في مشهد يهدّ الجبال، شهيدا وراء الآخر، ومع
كل تلك المشاهد المفرطة في القسوة على قلبها الحيدريّ، ولا عجب من سليلة عليّ عليه
السلام، أن تكون بتلك الرّباطة العالية من الجأش، لم يصدر منها ما يشير من قريب
ولا بعيد، من الجزع والخروج عن آداب الاسلام، في الصبر عند البلاء، الى ما ابتدعه دعاة
الضلال، وصنّاع البدع بلا بيّنة، مدفوعين بتوهّم مواساة أهل البيت عليهم السلام،
بتلك الطريقة التي لا علاقة لها أبدا بالإسلام، وهي لعمري شراك صهيونية خبيثة.
بل
إن في اجابة السيدة زينب لابن زياد الملعون، وهو في قمة سعادته، ورضاه بما جناه،
قد اسقطت عنه كل أحاسيسه الشيطانية، وحوّلته في مجلسه الى مجرّد دعيّ كاذب، يحاول
أن يظهر بمظهر الحاكم المنتصر بقوله: " الحَمْدُ
لله الَّذِي فَضَحَكُمْ وَأَكْذَبَ أُحْدُوثَتَكُمْ. فَقَالَتْ: إِنَّمَا
يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ، وَيَكْذِبُ الْفَاجِرُ، وَهُوَ غَيْرُنَا. فَقَالَ ابْنُ
زِيَادٍ: كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ الله بِأَخِيكِ وَأَهْلِ بَيْتِكِ؟ فَقَالَتْ:
مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلاً، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ
الْقَتْلَ، فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ الله بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِـمَنِ الْفَلْجُ(9) يَوْمَئِذٍ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا بْنَ مَرْجَانَةَ. ( 10)
دليل
قاطع على استقامة أدائها، في أحرج الأوقات،
وأشدّها ثقلا ومسؤولية وخطرا، وثباتها على مناج أهل بيتها، الذين أذهب الله عنهم
الرجس وطهرهم تطهيرا، يُبعد عنها شبهة هذا النّطح الذي استدل به المطبّرون على
جواز التطبير.
وما
أجمل في نظر المؤمنين من الشهادة في سبيل الله، لا اعتقد أبدا أن ذلك المقام الرفيع
الذي ناله اهل البيت عليهم السلام، يقابل من طرفهم بما يخالف شريعة جدهم ابي
القاسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيسيء لها أيّما اساءة، وحاشا الذين أذهب
الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا أن يكونوا بذلك التدنّي، الذي يليق بعامة الناس
وجهّالهم.
ولو
أن هؤلاء المشتبهة عليهم كيفية إقامة مراسم العزاء الحسيني، عادوا إلى مراجع
التقليد في عموم استفتاءاتهم بهذا الخصوص، واتّبعوا اغلبية اٌقوالهم، لوجدوا ما
يشفي غليلهم، في معرفة ما اذا كان ما يقومون به من أفعال، مخالفة لسماحة الدين
ووسطيته، وبعده عن كافة اشكال التطرّف جائزا؟ أم هو خلاف ما عرفه الشيعة منذ يوم
عاشوراء.
لقد
استهدف التشيع قديما بإرهاب الطغاة، فقتلوا من قتلوه من أتباعه، واحرقوا ما أحرقوه
من ثراثهم، امعانا منهم في اذهاب ريحه واستئصال شأفته، واستهدف منذ قرن ونيّف من القوى
الاستعمارية، التي عرفت ما يمثّله من قيم صحيحة، فسعت الى تشجيع أي بدعة، يمكن ان
تنطلي على عوامه، فتلتصق به، ذكر المؤرخ إسحاق نقاش، في كتابه (شيعة العراق)، أن
أول من أدخل التّسوّط، (11) وشق الرؤوس بالسيوف، إلى النجف الأشرف في العام 1919،
هو الحاكم البريطاني، الذي خدم سابقاً في كرمنشاه، ونقل الممارسة إلى العراق، عبر
الهنود الشيعة، بهدف إضعاف الحوزة حينها، وكشفت بريطانيا عن ذلك في العام 1970، في
كتاب (دليل الخليج وعمان ووسط الجزيرة العربية)
لمؤلفه جون جوردون لوريمر John Gordon
Lorimer.
وغير خاف هدف هذا التوريد المريب، من طرف البريطانيين، لما
لاحظوه من تأثير الحوزة العليمة وعلمائها، على الوسط الشعبي في بلاد المسلمين
الشيعة، وقدرتهم على حشد الجماهير بالنداء والفتوى، ضد الاستعمار البريطاني، نظرا
لقداسة الحوزة وعلمائها وتلاميذها، عند عموم الشيعة، وكلنا يتذكر ثورة العشرين في
العراق 1920 التي قادها هؤلاء العلماء الاحرار.
أما الشهيد مرتضى مطهري فيذكر: "إن التطبير والطبل عادات
ومراسم جاءتنا من أرثوذكس القفقاز وسرت في مجتمعنا كالنار في الهشيم". (12) ويتطابق كلامه مع المؤرّخ
السيد حسن الأمين الذي قال: هناك قولاً يقول بان
التطبير بدأ في عهد الصفويين، والشيء الذي قد يكون معقولاً هو انه كان في بلاد القوقاز
مسيحيون، يقومون بتعذيب جسدهم فداءً للسيد المسيح، وكان في القوقاز عدد قليل من
الشيعة نقلوه إلى إيران، عندما كانوا يذهبون لزيارة ضريح الإمام علي بن موسى الرضا
عليه السلام. (13)
ولا
يختلف كلام الشهيد علي شريعتي عما سبق، حيث نسب ظهور التطبير وتوابعه الى الدولة
الصفوية، فقال: "ذهب وزير الشعائر الحسينية
إلى أوروبا الشرقية، وكانت تربطها بالدولة الصفوية روابط حميمة يكتنفها الغموض،
وأجرى هناك تحقيقات ودراسات واسعة، حول المراسيم الدينية، والطقوس المذهبية،
والمحافل الاجتماعية المسيحية، وأساليب إحياء ذكرى شهداء
المسيحية، والوسائل المتبعة في ذلك، واقتبس تلك المراسيم والطقوس، وجاء بها إلى
إيران ".(14)
مسالة تحريم التطبير، وكل عمل سيء للتشيع وللإمام
الحسين عليه السلام وثورته الاسلامية، هي من بديهيات التي أملت على مراجع وعلماء
الشيعة الاعلام منذ أن بدأت تلك الظاهرة الغريبة على التشيع تغزو الوسط الشعبي
الشيعي، فلم يتمالكوا من القول الفصل بشأنها قطعا لأي شك في حرمتها، ودفعا لأي
اشتباه في حكمها، فهذا ولي امور المسلمين الامام القائد الخامنئي دام ظله الشريف
قد افتى بها ردّا على سؤال وجّه اليه:
ج: التطبير مضافا
إلى أنه لا يعد عرفا من مظاهر الأسى والحزن وليس له سابقة في عصر الأئمة عليهم
السلام وما والاه ولم يرد فيه تأييد من المعصوم عليه السلام بشكل خاص ولا بشكل
عام، يعد في الوقت الراهن وهنا وشينا على المذهب فلا يجوز بحال. ( 15)
وفي جواب آخر قال
سماحته: ما يوجب ضرراً على الإنسان، من الأمور المذكورة، أو يوجب وهن الدين والمذهب، فهو حرام يجب
على المؤمنين الاجتناب عنه، ولا يخفى ما في كثير، وله رأي واضح بضرر التطبير،
وحرمته في مسائل أخرى، من تلك المذكورات من سوء السمعة والتوهين عند الناس، لمذهب
أهل البيت عليهم السلام، وهذا من أكبر الضرر وأعظم الخسارة، وهو واضح بحرمة هذا
العمل، بالعنوانين الأولي والثانوي."(16)
كما لن يتخلّف العلماء الابرار الاعلام، في التصدّي لظاهرة مسخ الشعائر
الحسينية في الثورة والاصلاح، فاعلنوا رفضهم للتطبير بتوائمه من البدع التي ما
أنزل بها من سلطان، فصرحوا بحرمتها تصريحا باتّا، وقالوا بعدم جواز القيام بها، لما
أحدثته من ضرر بالإسلام المحمدي الأصيل، الذي يمثله التشيّع للأئمة الهداة عليهم
السلام من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إنما
كانت نهضة الامام الحسين عليه السلام، من أجل تحيق الاهداف العليا للإسلام، في
الاصلاح والثورة على أهل الفساد، وهاضمي حقوق الله وحقوق العباد، وقد أعطى من نفسه
المثل، ليقوم الناس ضد أي سلطان جائر لإسقاطه، مهما كلفهم من تضحيات، فلا عيش
يستحق البقاء والثناء عليه، سوى عيش الأحرار.
المراجع
2 – وسائل الشيعة الحر العاملي ج 3 ص 280
3 – وسائل الشيعة ج 3 ص 282
4 – وسائل الشيعة ج 10 ص 459 .
5 – بحار الأنوار المجلسي ج 44 ص 283
6 – الكافي
الكليني ج5ص527 باب صفة مبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم النساء/ وسائل
الشيعة الحر العاملي ج3ص272 / بحار الانوار المجلسي ج79ص76 باب 16 التعزية والمآتم
وآدابها وأحكامها/ نور الثقلين الحويزي ج5 ص 308 / مستدرك الوسائل النوري ج 2 ص452
7 – ضرب
الراس بالسيوف والقامات لإسالة الدم
8 –
الارشاد الشيخ المفيد ص232/ تاريخ الطبري ج5ص420/ العوالم الامام الحسين الشيخ عبد
الله البحراني ص 246
9 – الفلج هو
الظفر والفوز. مجمع البحرين الطريحي ج3ص425
10 –
الارشاد الشيخ المفيد ج2ص 115/ العوالم الامام الحسين عبد الله البحراني ص383 /
الفتوح ابن اعثم الموفي ج5ص122/
11 –
ضرب الجسد بالسلاسل
12 –
الجذب والدفع في شخصية
الإمام علي عليه السلام ص 165
13 – التطبير تاريخه وقصصه أحمد العامري الناصري ص31
14 – التشيع العلوي والتشيع الصفوي الدكتور علي شريعتي ص208
15 –
أجوبة الاستفتاءات الامام السيد علي
الخامنئي ج2ص 129
16 – مجلة بقية الله السنة11 العدد 126
ملف العدد عادات عاشوراء