بقلم: محمد الرصافي المقداد
هي جريمة من أكبر الجرائم التي ارتكبت بحق
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومرّت مسكوتا عنها، بسبب الهالة التي أضفاها بنو
أمية على مرتكبيها - حاشى الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة وامتدحهم
الله في كتابه- فلم يتجرأ أحد من بعدهم على
نقدهم، تهيّبا مما ركبّوه فيهم من فضائل موضوعة، لم تصحّ واحدة منها، وخوفا من بطش
الحكام، الذين تبنوا تلك العقيدة وفرضوها إرثا على رعاياهم، بعدما نشروها بأساليبهم
الخبيثة.
حبل التقصير في حق النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، لو تتبعنا مربطه لوجدناه منعقدا في الجيل الأوّل من الأمّة الإسلامية، الذين
قصّروا في حفظ سيرته وسنته تقصيرا فادحا، بسبب اجراءات منع نشرها التي نزلوا تحت
وطأة مخترعها، أودى بهما الى الحال، التي وصلتنا اليه الآن، قد اخلط فيهما السقيم
بالسليم والمكذوب بالصحيح، فتحوّلت على بالغ أهيمتها، الى فسيفساء عجيبة، وخليطا
غير متجانس، يعطيان انطباعا منفّرا، لمن عرف معنى النبوة وخصال صحابها، واستوعب
مرتبة الرسالة ومقدار حاملها.
وتأخر تدوين السنة النبوية بعد ذلك، الى ما
بعد أواسط القرن الثاني، وسبب ذلك البعد الزمني الكبير لدى عامة المسلمين، ضبابية في
جوانب هامة من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أدّت الى ضياع أكثر آثاره، ولو
أنّ الذين منعوا الرواية والتدوين، أدركوا خطورة ما أقدموا عليه، لما تجرأوا على شيء
منه، هذا أذا صرفنا النظر عن تجاوزات أخرى بحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
تؤكد أن هناك إصرارا غريبا ظهر مستهدفا إلغاء وتغييب سنته، سواء كان بحضوره أو في
غيابه، نقلها الحفاظ دون استثناء، ومروا عليها سريعا مرور الكرام، كأنّ انتهاك
حرمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرف فريق من جيله جائزة عندهم، ولا عتب
عليهم فيه.
لقد غلبت عقلية اعتبار أن للنبي صلى الله
عليه وآله وسلم لحياته وجهان، وجه دنيوي لا علاقة له بالوحي، ووجه تشريعي مرتبط
بالوحي، على ترجيح حقيقة تكامل دوره التبليغي والتشريعي، بأدائه الشخصي وسيرته
العطرة، ولم ينبني هذا الاعتقاد الخاطئ، الا عن سوء فهم لشخص النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، ودوريه التبليغي النظري والتطبيقي، وعدم دراية بشمولية الاسلام لجميع
أوجه الحياة، وكيف لا يكون كذلك، وهو الذي جاء لإصلاح اعوجاج الناس، في سلوكهم
ومعاملاتهم.
وعلى الرغم من أنّ الله دعانا الى اتباع
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطاعته، وجعل منهما أساسا للدين معتقدا وتطبيقا، وجعل
الانقياد التّام له من أوكد الواجبات التي نصّ عليها القرآن الكريم، وحث على
الامتثال لأوامره، واجتناب نواهيه، تباعا لا يعتريه شك أو انقطاع، بلا تحفظ فقال:
ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله. (1)
وعلى الرغم من ان النبي صلى الله عليه وآله
وسلم نفسه قد أخبرنا، بأن شخصه وسيرته يحملان مضمونا اسلاميا واجبا، مفسرا لكتابه
الذي أمر بتبليغه لفظا ومعنى، فإن تلك الدعوة قد لاقت صدودا وإعراضا، وعوض أن
تقابل بالرضا والتسليم، قوبلت بالصدّ والتعتيم.
أمّا الذين قابلوها بالرضا والتسليم، فأهل
بيته عليهم السلام، ومن تبعهم على نهجهم، فقد كانوا في البداية ذلك الفريق الذي
أسسها، والحزب الموحّد الذي ألّفه، الذين وقفوا في حجرته ووقفوا الى جانبه وناصروه
في دعوته بكتابة وصيّته، وتمسكوا بطلبه الذي رغب فيه، لا عن عارض مرض ألمّ به، وانما
إيمانا منهم بعصمة شخصه، وتمام وظيفته التي لا ينطق فيها عن الهوى، وللضرورة التي اقتضاها
الحال في ذلك الوقت، والتي ألمحت فيها عبارته، بأن مقتضاه عصمة للأمّة من الضلال،
وفهموها بأنها وصية تاريخية واجبة ملزمة ومكتوبة، ومفصّلة لمنظومة الحكم من بعده،
بعد أن كان أعطى قبل ذلك دلالة عليها بقوله: " تركت فيكم الثقلين ما إن
تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي." (2)
أما الذين قابلوها بالصدّ والتعتيم، والتشكيك
بأن النبي يهجر ( يهذي)(3) ففريق من الصحابة وأتباعهم من عامة المسلمين، لم يجدوا
بدّا من الاعتراف من جهة، بأن السنة جاءت بينة وشارحة لكتاب الله، ومن جهة أخرى
سكتوا عما اقترفه اسلافهم بحقها، من تطاول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصفه
بالهجر، وبالدعوة الى تركها بالقول: "حسبنا كتاب الله." وما خلّفته من
أضرار جسيمة على السنة النبوية، كأنّما
الذي اسس أساس ذلك، كانت له سلطة على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، قوله
نافذ ومطاع في المسلمين، بلا أدنى مساءلة.
إن حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم
" الا اني اوتيت الكتاب ومثله معه.."(4) قد جاء معبّرا على القيمة التشريعية
العالية، التي تضمّنتها سنّته المطهرة، فهي رديف القرآن في بيان أحكامه، ومخزون تفسير
آدابه وسننه، ومؤكدا على أنّ مضمونه يجتمع في قداسته مع الكتاب العزيز، ومن هنا
يجب علينا أن نستغرب من هذا الجفاء الذي قوبل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وسنته، ومن طرف المقربين منه من الصحابة.
لا يختلف المانعون لسنة النبي صلى الله عليه
وآله وسلم والرافضون لها، عن حزب الطابور الخامس، الذي كان معارضا للنبي صلى الله
عليه وآله وسلم ومشككا لملكاته الجسدية والروحية... فجميعهم كان يسعى للحد من مدى
قدسيته وطاعة المسلمين له، وشهادتهم بنبوّته التي نطقوها بشأنه، فضح الله كذبها
وزيفها في محكم كتابه حيث قال: " اذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول
الله والله يشهد أنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون اتخذوا ايمانهم جنة
فصدّوا عن سبيل الله.." (6)
محاولات التغطية على جريمة التطاول على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ومنعه من استكمال وصيّته، خطيرة جدّا لمن ادرك حقيقة
النبوة، والقيمة التبليغية الهامة التي اكتساها طلبه، واقتضتها دعوته بافتعال
روايات تافهة، ليس لها أي قيمة علمية، متصلة بتقييد العلم بالكتابة، وما نسب الى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قول: "لا تكتبوا عني شيئا الا القران
فمن كتب عني شيئا غير القران فليمحه." (7) مناقض تماما لقول لعبد الله بن
عمرو: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله
عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله
صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما
يخرج منه إلا حق"(8)
ودعوة الى تضييع مجمل أقواله وأفعاله
وتقريراته، على مدى جيل واحد، بل إن مضمون الرواية يعطي من آمن بها، مسوّغا
التخلّي عنها نهائيا، وأعطى مبررا لقسم من
المسلمين الى عدم الاعتماد عليها، كما كان من شأن أبي حنيفة ومن وافقه عل رأيه.
ما معنى ان تتناقض اوامر النبي بكتابة
احاديثه مع نهيه عنها؟
ومن هذه قريش التي تصدّت للتشكيك في صدق
النبي مبلغا عن ربه؟ هل هى جماعة فوضوية عرضية؟ أم انها حزب معارض يمثل ثقلا في
مواجهة النبي وعرقلة دوره؟
فهل لذلك علاقة بالمنع الأول، الذي قام به من
أسس أساسه، ومن كان معه ووافقه عليه من وافقه؟
وما معنى ان يداس بعمد على عصمة النبي صلى
الله عليه وآله وسلم، بالادعاء انه معصوم فقط في الوحي؟ فهل كان في غيره خارج إطار
التبليغ، ومعفيّا عن التقيّد بالالتزام الكامل في إطار وظيفته؟
قال القاضي عياض: أما أحواله في أمور الدنيا،
فقد يعتقد الشيء على وجه، ويظهر خلافه، أو يكون منه على شك أو ظن، بخلاف أمور
الشرع .(9)عن رافع بن خديج قال: لما قدم رسول الله المدينة، وهم يأبرون النخل،
فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا. فتركوه
فنفضت، فذكروا ذلك له فقال: انما أنا بشر، اذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به،
واذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر.(10) وفي رواية أخرى: أنتم أعلم بأمر
دنياكم. وفي منسوب آخر: إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن (11)
قدسية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتمام
دوره، بالمقدار الذي نطق به الوحي في قرآنه، وسيرته العطرة التي حفظها له أهل بيته
الهداة عليهم السلام، يجب ان تكون الميزان الذي تعارض به بقية الروايات، التي جاء
فيها ما يسيئ الى شخصه، ويضع من مقامه الشريف، فيرتاب فيه الجاهلون بحقيقة عصمته، بكل
ما يعيق رسالته التي بعث من أجلها، وأمر بأدائها، تماما كما أراده الله منه، دون
أن يتخلل ذلك أي مانع يحول بينه وبين بيان شريعته وآدابه، فلا تتناقض مع سلوكه،
ولا يتسرب منها أي شك يعتري سيرته، مما يعطّل بالتشكيك أداءه القولي والعملي.
وعلى بعد أربعة عشرة قرنا ونيّفا من رحيل
خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، نرى لزاما علينا اليوم، أن نقف وقفة حقّ
وصدق، لنسأل أنفسنا هل نحن مسلمون حقا ومحمّديون صدقا؟ اذا كانت الإجابة بالإيجاب،
فأين نحن من منه ومن سنته صلى الله عليه وآله وسلم، التي تشكل البيان الشافي
لمضامين وحيه، والنموذج الوافي لآداب أحكامه في كل متعلّقات الحياة، ومن المعيب
علينا أن ننتسب الى افضل مخلوقات الله تعالى صلى الله عليه وآله وسلم، ونبقى على
مسافة فاصلة عنه، ومن غير اللائق أن نرى اعتداء ارتكب على قدسية شخصه صلى الله
عليه وآله وسلم مستمرا، منذ أن أطلقت شعاراته عليه، فنمرّ عليه مرورا، غير عابئ
ولا مسؤول.
من هنا يبدأ الاختبار بحب النبي صلى الله
عليه وآله وسلم واتّباعه، وليس لنا الا أن نختار بين طريقين:
-
إما أن نكون مع النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فننصره في محنته الى تعرض لها، بإسقاط سنته وإعفاء سيرته ودوره؟
-
وإما أن نكون مع الذين وقفوا في وجهه صلى
الله عليه وآله وسلم مهما كانت دوافعهم ولا مبرر لها؟
دعوة صادقة الى تطهير قلوبنا من دنس ما أشاعه
فينا المخطئون، وفتح ابوابها من جديد على حقيقة الانسان الكامل، سيد الأنبياء
والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، ليحل فيها محلّ الصورة المشوهة التي ركبها
الظالمون في أجيالنا، لحرفها عن حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونبوّته،
وأعتقد جازما أن من له في قلبه حب وغيرة على هذا الرجل العظيم المقدّس، فإنّه
سيكون في صفه دون شك.
المراجع
1 – سورة ال عمران الآية 31
2 – حديث الثقلين أخرجه كل من مسلم في جامع
أحاديثه كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أهل البيت ج7ص122، 123، 124/ سنن الترمذي
ج5ص663 حديث3788 خصائص النسائي ص41/ سنن الدارمي ج2ص431/مصنف ابن أبي شيبة ج11
ص452 حديث11725 / السنة لابن أبي عاصم ج 2ص336 ح 754 و628 و630 وحديث 1548-1549 –
1553/ طبقات بن سعد ج2ص194 / مشكل الآثار ج2 ص368/ حلية الاولياء لابي نعيم ج1
ص355 /المعجم الكبير للطبراني ج5 ص153-154 ح 4921-4923 وص169-170 ح 4980-4982/
المعجم الصغير الطبراني ج1ص131
3 – جامع احاديث البخاري. كتاب الجهاد والسير.
باب هل يستشفع الى اهل الذمة ج4ص69ح3053 وص99ح3168 وكتاب المغازي باب مرض النبي
ج6ص9ح4431/ مسلم كتاب الوصية ج5ص75ج1637 / مسند احمد من مسند بني هاشم مسند عبد
الله بن عباس ج3ص408ح1935
5 – سنن
ابي داود اول كتاب السنة باب في لزوم السنة ج5ص11ح4604/مسند احمد مسند الشاميين
حديث المقدام بن معد يكرب ج28ص410ح17174
6 – سورة المنافقون الآية 1و2
7 – سنن الدارمي المقدمة باب من لم ير كتابة الحديث ج1ص412ح464/ مسند
احمد مسند ابي سعيد الخدري ج17ص149ح 11085 وص 250ح11158 وص443ح11344
8 – مسند أحمد مسند عبد الله بن عمرو
ج11ص57ح6510 وص406ح6802/ سنن الدارمي باب
من رخص كتابة العلم ج1ص429ح501/
سنن أبي داود كتاب العلم باب في كتابة العلم ج4ص41ح3646
9 – الشفاء القاضي عياض ج2ص178/179
10 – مسلم كتاب الفضائل باب وجوب امتثال ما
قاله شرعا دون ما ذكره من معايش الدنيا
ج7ص95ح 2362
11 – مسلم ج7ص95 ح 2361 مسند احمد مسند طلحة
بن عبد الله ج3ص15ح1395
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire