samedi 30 novembre 2019

متى سيستوعب العراقيون الدرس؟



بقلم: محمد الرصافي المقداد
عندما اقتربت طلائع داعش من محافظة بغداد، بعد أن بسطت سيطرتها على المحافظات الغربية للعراق - وكانت مؤامرة محكمة التدبير- وأصبح الوضع حينها لا يحتمل تأخير التحرّك، لمواجهة الوباء الإرهابي القادم من سوريا، لم يكن هناك من يجرؤ على اصدار فتوى بالدفاع المقدس غير السيد السيستاني، ولم تجد تلك الفتوى المهمة في تاريخ العراق المعاصر، سوى خيرة شباب العراق، الذين هبوا ملبّين نداء المرجعية الحكيمة، فانضموا متطوعين في الحشد، للدفاع عن المقدسات، وكانت جمهورية إيران الإسلامية حاضرة في موقف عبّرت فيه عن تضامن أخوي صادق، ففتحت مخازن أسلحتها، وقدّمت خبرات كوادرها العسكرية وكانت سببا في تسريع تنامي قوة الحشد، من أجل الدفاع عن العراق، في وجه خوارج العصر، ولم تبخل إيران بتضحية أو جهد من أجل ازاحة الخطر الارهابي الوهابي . 
ولم تكن داعش منذ تأسيسها، سوى صناعة أمريكية صهيونية، حركتها مخابرات البلدان المستفيدة من وجودها على الاراضي السورية والعراقية، ولم يكن التحالف الذي أسسته أمريكا، بدعوى محاربة داعش، سوى منظومة لوجستية، قامت من أجل حماية داعش، ونقل عناصرها من مكان الى آخر لتنفيذ مخططاتهم، وتاريخ القوات الامريكية في العراق بعد حرب الخليج الثانية، لمن اطّلع على تفاصيله الدقيقة، أشد قذارة منها في الحربين الكورية والفييتنامية، يكفي أن نفتح ملف سجن أبو غريب، وانتهاكات حقوق الانسان الفظيعة بحق العراقيين أينما وجد أمريكي، وسرقة أطنان من احتياطي ذهب البنك المركزي العراقي، وكنوز القصور الرئاسية العراقية.
رغم كل الجرائم التي ارتكبتها امريكا على الاراضي العراقية بحق العراق، ارضا وشعبا وتاريخا، واستمرار تواجدها العسكري في شكل قواعد منتشرة في كردستان والمحافظات الغربية، معرقلة كل عمل وطني يراد منه استقلال العراق، وعزة أهله وتطهير أراضيه من أي تواجد عسكري، يفقد بلاد الرافدين كرامته، فقد بقي التواجد الامريكي هناك بلا ردّة فعل ولا محاسبة، تدفع نحو اجلائه من مواقعه التي تمركز فيها، قضاء لمآربه وليس حبا في العراق.
أمريكا التي لم يكن لهمّ تواجدها العسكري في العراق، وغيرها من دول الخليج، سوى نهب خيرات البلدان المحتلة من نفط وغاز، قد تسببت في قتل قرابة المليون عراقي منذ تدخّلها السافر بالعراق، ترى بعين العملاء وعديمي الضمير صديقة وحامية وحليفة لهم، بينما ترى ايران بنفس تلك العين الخاسئة المشيحة عن الحق، عدوّة لا مكان لها بينهم، مع أنه لم يصدر منها ما يفيد ذلك الانطباع الخاطئ.
ما حصل هذه الأيام في العراق من تظاهرات مطلبية شعبية، منادية بالإصلاح ومكافحة الفساد، كان مشروعا في إطاره الاستحقاقي، ومستحقا نظرا لكثرة الفساد المستشري بين أوساط ساسته هناك، الذين اختارهم العراقيون أنفسهم، اختيارا عشائريا وطائفيا ومصلحيا، خارجا عن اطار الوطنية، من الغباء أن تتحمل ايران مسؤوليته ونتائجه، في نظر هؤلاء الذين صبّوا جام نقمتهم وغضبهم، على التمثيل الدبلوماسي الايراني في البصرة أوّلا، ثم كربلاء ثانيا، والنجف الأشرف أخيرا، فهل ذنب ايران أنها تعاملت دبلوماسيا مع ممثلي الشعب العراقي؟ أم أنها كانت مطالبة بوقف التعامل معهم، قبل أن يحسم فيهم الشعب العراقي أمره؟ لا اعتقد أن عاقلا يقبل مثل هذه التجاوزات الدبلوماسية، خصوصا اذا كانت مستبقة لرأي الشعب، مهما كانت درجة صلاحها.
لقد اثبت الاعتداء المرتكب بحق التمثيلية الدبلوماسية الايرانية بكربلاء، ومهاجمة مقرات الحشد الشعبي، وقتل الأخوين الشهيد القائد أبو جعفر وسيم العليباوي، وأخيه عصام من الحشد الشعبي بدم بارد، واحراق القنصلية الايرانية بالنجف، أنّها  سلسة من الأعمال الإرهابية التي وقع التخطيط لها أمريكا وصهيونيا، من أجل أن تظهر وسط تعابير شعبية، على أساس أنها نابعة من متظاهرين، في مناطق معروفة بانتمائها الشيعي، وما أريد ايصاله للعالم، بأنه ثورة وانقلاب على القيم الاسلامية الشيعية نفسها، من داخل الطائفة، متجاوزا الخطوط الحمر في الاستخفاف بمقدسات المسلمين الشيعة.
إن من دعا أول مرة الى  نزع سلاح المقاومة في لبنان، هو نفسه الذي اعاد الطلب بخصوص حشد العراق، بكل الخبث الذي سيطر على عقله وقلبه، والعقبة الوحيدة التي تقف حائلة دون اتمام صفقة القرن، هو محور المقاومة الذي أسسته ايران الإسلامية، بمعيّة شرفاء الامة، الذين رفضوا اطار التطبيع مع الكيان الصهيوني، وأصرّوا على مواصلة نهج المقاومة، الذي دعا اليه الامام الخميني رضوان الله عليه، ويقوده اليوم الامام القائد السيد الخامنئي.
شرفاء العراق اليوم مطالبون بالاعتذار عما فعله السفهاء في هذه البلد، وأكثر من ذلك اثبات أن ما حصل من اعتداءات هي خارجة عن ما ألفه الشعب العراقي في احترام اشقائه الإيرانيين ومودّتهم الواجبة، بما قدموه من تضحيات وجهود وتنازلات، من أجل أن يكون العراق حرّا أبيّا آمنا مزدهرا، وليس العراق وايران سوى عمقين استراتيجيين لبعضهما البعض، وشعبين عريقين متداخلين ومشتركين في التاريخ والحضارة والدين، وعمليات الاستعداء والتحريض التي استهدفتهما في الآونة الأخيرة، تهدف الى فصلهما عن بعضهما، واحداث قاعدة اشتباك بينهما، على غرار ما حصل في الحرب العدوانية، التي شنها الطاغية صدام ضد ايران الاسلامية، ولم ينجح في تحقيق ما كان يرجوه الأمريكان من اسقاط النظام الاسلامي.
كل ما أرجوه، أن ينجح الشعب العراقي في اخراج القوات الامريكية من بلاده، واخلاء قواعدها التي تشكل خطرا محدقا بالمنطقة بأسرها - وهو عمل مهمّ جدا وليس سهلا تحقيقه - ووجود تلك القوات هو لمصلحة أمريكا والكيان الصهيوني وفقط، وهي السيف المسلط على رقاب أحرار هذه الأمة، بما فيها الشعب العراقي الأبيّ.
فهل سيقلب السحر الذي جاء به عملاء أمريكا الى العراق، ليمحو الصورة السيئة التي رسمها هؤلاء الاوغاد في الإساءة الى إيران الاسلامية، ويثبت الصورة الحقيقية للعراق الذي لا يتجزأ عن إيران في سرّائه وضرائه.
   


عندما يخوّف الشيطان أولياؤه




بقلم: محمد الرصافي المقداد

إن المتابع لكلمات وبيانات الامام السيد الخامنئي، التي عادة ما يلقيها امام مسؤولي بلاده وكوادرها، عند زيارتهم له في مقر إقامته بالعاصمة طهران، باستطاعته ان يدرك دون ادنى عناء، ان هذا الرجل قد اوتي من البصيرة النافذة، والمعرفة الدقيقة بالمستجدات الحاصلة، على الساحة الايرانية والعالمية على حد سواء.
وقد برهن في مناسبات عديدة، انه جدير بقيادة، ليس ايران فحسب، بل وقيادة هذا العالم، وانتشاله من زيف الديمقراطية الكاذبة، والنظريات البشرية العاجزة، عن تحقيق حد ادنى من عدل وأمن الشعوب.
استلم دفة القيادة بعد رحيل الامان الخميني، وهو الذي كاد يشد الرحال قبله، اثر عملية اغتيال ارهابية في 27/6/1981، لكن الله سلم لهذه الامة هذا القائد الفذ، فأنجاه من موت محقق، ولولا عنايته به، لكان منذ ذلك التاريخ في عداد القادة الشهداء الذين سبقوه، ولبّوا نداء بارئهم.  
ولا يختلف معي موال لخط ولاية آل محمد في القول، بأن الله ادّخره واستبقاه، ليكون صمام أمان إيران ومحور مقاومتها، وتاج سياسة تعلمت من مدرسة محمد وعلي، مبدأ أساسيا اختزل التوحيد، وعمل على أساسه، مؤمنا ان الله مع العبد، طالما ان العبد مع الله، وعلى اثر علي واهل بيته عليهم السلام، مضى القائد السيد علي يشق طريق النظام الاسلامي، وسط غابة من المؤامرات والعقبات، وكان النجاح حليف آرائه الصائبة و نصائحه الحكيمة.
ففي خصوص الملف النووي 5+1، وبعد مفاوضات مضنية أبرم الاتفاق، وشكل ذلك انتصارا سياسيا باهرا للدبلوماسية الاسلامية الايرانية، عبر فيه الشعب الايراني عن فرحة تلقائية، أخرجته الى شوارع مدنه، معبرا عن فرحته بذلك الانتصار، لكن الامام الخامنئي حينها لم يكن متفائلا ولا متحمسا، بل كان في نظرته الاستشرافية، مستبقة نتائج ما بعد الاتفاق، فوجّه خطابه محذّرا ومنبها، الى ضرورة عدم الاعتماد على وعود الغرب ومواثيقه، وتبيّن بمرور الوقت، أن الوعود الاوروبية بقيت مجرد محاولات فاشلة، لم تتمكن من كسر اجراءات الحضر الامريكية، وأن الاستفادة الايرانية من الاتفاق بقيت حبرا على ورق.
الانجرار الى مزاعم الغرب وفخاخه، مخططات جهزها أعداء إيران، وباشروا العمل عليها، كلما سنحت لهم بذلك فرصة، وقد حذّر الامام الخامنئي المسؤولين والشعب من تصديق وعود أمريكا وحلفائها، والانجرار وراء دعواتها التي لا يوجد فيها مصلحة واحدة تفيد البلاد والشعب، وهي مجرّد وعود زائفة لن ترقى الى التطبيق أبدا.
ويبدو ان أمريكا قد بدأت تشعر بخيبة، فيما أقدمت عليه من اجراءات ظالمة بحق إيران، جراء سلبيّة ما أمّلته من نتائج كانت ترجوها، ولم تجد بدّا من تحريك ورقة المؤامرة الداخلية، اقتناصا لفرصة رفع سعر المحروقات، التي زيدت لتكون عائداتها لفائدة الفئات الفقيرة، ولكن حنكة النظام الاسلامي في التعامل مع الأزمات الطارئة، ووعي الشعب الايراني، في عدم الانجرار وراء دعوات شاذّة، أقلّ ما يقال عنها أنها مشبوهة منذ البداية، أفشل امكانية استثمارها داخليا لتعمّ البلاد، واختتم الشعب الايراني مراسم دفن تلك المؤامرة، في تظاهرات حاشدة في مختلف، المدن منددا بالتدخل السافر الذي قامت به أمريكا والقوى الخليجية العملية لها، لبث أعمال التخريب والحرق، طالت مؤسسات بنكية وخدمية، في مناطق محددة وأجهضت في وقتها.  

الامام الخامنئي ولدى استقباله لفيفا من المنتجين والمبدعين، والناشطين الاقتصاديين مساء الثلاثاء2019/11/19 عبّر عن وجهة نظره الصائبة في التعامل مع المستجدات الحاصلة على الساحة الداخلية والدولية، فقال من بين ما خطب به متوجّها الى هؤلاء الصناعييين: إننا سنحوّل الحظر من تهديد الى فرصة، ان شاء الله تعالى، عبر الاستفادة من الطاقات منقطعة النظير، التي تم استثمار بعضها فقط، وبفضل جهود الناشطين الاقتصاديين.. لو تمكّن الشعب الايراني والناشطون الاقتصاديون والمفكرون في البلاد، من اجهاض تأثيرات الحظر، عبر الاعتماد على الطاقات الداخلية، فإن فارض الحظر سيكف عن الاستمرار فيه، لأنه سيتضرر من جراء ذلك.
الحرب الاقتصادية التي شنتها أمريكا على ايران منذ 40 عاما، استطاعت أن تكبح من جماح النهوض الاقتصادي الشامل بالبلاد، لكنها لم تنجح في خنقه واطفاء روحه المقاومة، بفضل حكمة القيادة والاسلامية، وارادة الشعب وقواه المؤمنة بمستقبله المشرق، ومنذ ان أعلن الامام الخامنئي سنة 2010، عن بدء نوع آخر من مقاومة الاستكبار الامريكي الصهيوني الغربي، تحت عنوان اقتصاد المقاومة، تصدّيا لحالة التكالب التي تستهدف النظام الاسلامي على جميع الأصعدة، السياسية والاعلامية والعسكرية والاقتصادية، فإن دعوة قائد الثورة الاسلامية الى ابنائه ببذل الجهود الصادقة، من أجل توفير حاجيات البلاد من التكنولوجيا داخليا، دون الاعتماد على الخارج، فلا يجب عليهم انتظار تغير موقف، أو حسنة تبدر من هؤلاء الذين وضعوا انفسهم موضع العداء لإيران.  
وفي كلمته الأخيرة الى نخبة إيران من المبدعين والصناعيين قال: ليعلم الاصدقاء والاعداء، بأن الشعب الايراني مثلما فرض التقهقهر على العدو في سوح الحرب العسكرية والسياسية والامنية، (كالممارسات التي جرت خلال الأيام الاخيرة والتي لم تكن ممارسات شعبية) سيفرض بفضل الله تعالى التقهقهر على العدو في ساحة الحرب الاقتصادية ايضا بالتأكيد، ومع مواصلته الحركة الراهنة في مسار ازدهار الانتاج والتقدم الاقتصادي، سيحقق الافق الوضّاء لمستقبله.
أمريكا المفسدة في الأرض، أعيتها سبل التصدّي للنظام الاسلامي في إيران، ومحاولة وقف اشعاعه في محيطه الإسلامي، فجهزت ضدّه سلسة مؤامرات شديدة الإحكام والتنفيذ، باءت جميعها بالفشل الذريع، لعل آخرها احباط الشعب الايراني مؤامرة استغلال رفع سعر البنزين.
فزّاعة تخويف دول الخليج من ايران، هي أيضا وسيلة اتخذت منها أمريكا موردا اقتصاديا، اصبح يغطي الآن جميع تحركاتها العسكرية، ومخزونا يغطي تقهقرها الاقتصادي.
خوف هذه الدول من ايران لا اصل له ولا أساس، سوى أنها شعرت بأنها قد تعرّت كأنظمة استبدادية ظالمة أمام نظام اسلامي، أعلن انه سيعمل من أجل نشر الأمن والعدل في العالم، وسيتصدّى لمنظومات الاستكبار والصهيونية والعمالة، انتصارا لحقوق الشعوب المهضومة، لذلك فإنه لم يعد مستغربا، أن تصرّ تلك الانظمة على البقاء في خندق الوهم، الذي سوّقته لها امريكا، وان كانت تدرك في قرارة أنفس حكامها، بأنها مجرّد فزاعة أمريكية، عارية من الحقيقة، ولكن ما بأيديهم حيلة تغييرها، فمن يمسك خيط الاثارة له مصلحة يريد بلوغها، ولو بتلك الطريقة المثيرة للضحك.  



mercredi 27 novembre 2019

تداعيات إهمال تدوين سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجمع أحاديثه؟



بقلم: محمد الرصافي المقداد
هي جريمة من أكبر الجرائم التي ارتكبت بحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومرّت مسكوتا عنها، بسبب الهالة التي أضفاها بنو أمية على مرتكبيها - حاشى الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة وامتدحهم الله في كتابه-  فلم يتجرأ أحد من بعدهم على نقدهم، تهيّبا مما ركبّوه فيهم من فضائل موضوعة، لم تصحّ واحدة منها، وخوفا من بطش الحكام، الذين تبنوا تلك العقيدة وفرضوها إرثا على رعاياهم، بعدما نشروها بأساليبهم الخبيثة.
حبل التقصير في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لو تتبعنا مربطه لوجدناه منعقدا في الجيل الأوّل من الأمّة الإسلامية، الذين قصّروا في حفظ سيرته وسنته تقصيرا فادحا، بسبب اجراءات منع نشرها التي نزلوا تحت وطأة مخترعها، أودى بهما الى الحال، التي وصلتنا اليه الآن، قد اخلط فيهما السقيم بالسليم والمكذوب بالصحيح، فتحوّلت على بالغ أهيمتها، الى فسيفساء عجيبة، وخليطا غير متجانس، يعطيان انطباعا منفّرا، لمن عرف معنى النبوة وخصال صحابها، واستوعب مرتبة الرسالة ومقدار حاملها.
وتأخر تدوين السنة النبوية بعد ذلك، الى ما بعد أواسط القرن الثاني، وسبب ذلك البعد الزمني الكبير لدى عامة المسلمين، ضبابية في جوانب هامة من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أدّت الى ضياع أكثر آثاره، ولو أنّ الذين منعوا الرواية والتدوين، أدركوا خطورة ما أقدموا عليه، لما تجرأوا على شيء منه، هذا أذا صرفنا النظر عن تجاوزات أخرى بحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تؤكد أن هناك إصرارا غريبا ظهر مستهدفا إلغاء وتغييب سنته، سواء كان بحضوره أو في غيابه، نقلها الحفاظ دون استثناء، ومروا عليها سريعا مرور الكرام، كأنّ انتهاك حرمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرف فريق من جيله جائزة عندهم، ولا عتب عليهم فيه.
لقد غلبت عقلية اعتبار أن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لحياته وجهان، وجه دنيوي لا علاقة له بالوحي، ووجه تشريعي مرتبط بالوحي، على ترجيح حقيقة تكامل دوره التبليغي والتشريعي، بأدائه الشخصي وسيرته العطرة، ولم ينبني هذا الاعتقاد الخاطئ، الا عن سوء فهم لشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودوريه التبليغي النظري والتطبيقي، وعدم دراية بشمولية الاسلام لجميع أوجه الحياة، وكيف لا يكون كذلك، وهو الذي جاء لإصلاح اعوجاج الناس، في سلوكهم ومعاملاتهم.
وعلى الرغم من أنّ الله دعانا الى اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطاعته، وجعل منهما أساسا للدين معتقدا وتطبيقا، وجعل الانقياد التّام له من أوكد الواجبات التي نصّ عليها القرآن الكريم، وحث على الامتثال لأوامره، واجتناب نواهيه، تباعا لا يعتريه شك أو انقطاع، بلا تحفظ فقال: ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله. (1)  
وعلى الرغم من ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه قد أخبرنا، بأن شخصه وسيرته يحملان مضمونا اسلاميا واجبا، مفسرا لكتابه الذي أمر بتبليغه لفظا ومعنى، فإن تلك الدعوة قد لاقت صدودا وإعراضا، وعوض أن تقابل بالرضا والتسليم، قوبلت بالصدّ والتعتيم.
أمّا الذين قابلوها بالرضا والتسليم، فأهل بيته عليهم السلام، ومن تبعهم على نهجهم، فقد كانوا في البداية ذلك الفريق الذي أسسها، والحزب الموحّد الذي ألّفه، الذين وقفوا في حجرته ووقفوا الى جانبه وناصروه في دعوته بكتابة وصيّته، وتمسكوا بطلبه الذي رغب فيه، لا عن عارض مرض ألمّ به، وانما إيمانا منهم بعصمة شخصه، وتمام وظيفته التي لا ينطق فيها عن الهوى، وللضرورة التي اقتضاها الحال في ذلك الوقت، والتي ألمحت فيها عبارته، بأن مقتضاه عصمة للأمّة من الضلال، وفهموها بأنها وصية تاريخية واجبة ملزمة ومكتوبة، ومفصّلة لمنظومة الحكم من بعده، بعد أن كان أعطى قبل ذلك دلالة عليها بقوله: " تركت فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي." (2)      
أما الذين قابلوها بالصدّ والتعتيم، والتشكيك بأن النبي يهجر ( يهذي)(3) ففريق من الصحابة وأتباعهم من عامة المسلمين، لم يجدوا بدّا من الاعتراف من جهة، بأن السنة جاءت بينة وشارحة لكتاب الله، ومن جهة أخرى سكتوا عما اقترفه اسلافهم بحقها، من تطاول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصفه بالهجر، وبالدعوة الى تركها بالقول: "حسبنا كتاب الله." وما خلّفته من أضرار جسيمة على السنة  النبوية، كأنّما الذي اسس أساس ذلك، كانت له سلطة على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، قوله نافذ ومطاع في المسلمين، بلا أدنى مساءلة.
إن حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم " الا اني اوتيت الكتاب ومثله معه.."(4) قد جاء معبّرا على القيمة التشريعية العالية، التي تضمّنتها سنّته المطهرة، فهي رديف القرآن في بيان أحكامه، ومخزون تفسير آدابه وسننه، ومؤكدا على أنّ مضمونه يجتمع في قداسته مع الكتاب العزيز، ومن هنا يجب علينا أن نستغرب من هذا الجفاء الذي قوبل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسنته، ومن طرف المقربين منه من الصحابة.
لا يختلف المانعون لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرافضون لها، عن حزب الطابور الخامس، الذي كان معارضا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومشككا لملكاته الجسدية والروحية... فجميعهم كان يسعى للحد من مدى قدسيته وطاعة المسلمين له، وشهادتهم بنبوّته التي نطقوها بشأنه، فضح الله كذبها وزيفها في محكم كتابه حيث قال: " اذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله والله يشهد أنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون اتخذوا ايمانهم جنة فصدّوا عن سبيل الله.." (6)
محاولات التغطية على جريمة التطاول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنعه من استكمال وصيّته، خطيرة جدّا لمن ادرك حقيقة النبوة، والقيمة التبليغية الهامة التي اكتساها طلبه، واقتضتها دعوته بافتعال روايات تافهة، ليس لها أي قيمة علمية، متصلة بتقييد العلم بالكتابة، وما نسب الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قول: "لا تكتبوا عني شيئا الا القران فمن كتب عني شيئا غير القران فليمحه." (7) مناقض تماما لقول لعبد الله بن عمرو: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق"(8)
ودعوة الى تضييع مجمل أقواله وأفعاله وتقريراته، على مدى جيل واحد، بل إن مضمون الرواية يعطي من آمن بها، مسوّغا التخلّي  عنها نهائيا، وأعطى مبررا لقسم من المسلمين الى عدم الاعتماد عليها، كما كان من شأن أبي حنيفة ومن وافقه عل رأيه.  
ما معنى ان تتناقض اوامر النبي بكتابة احاديثه مع نهيه عنها؟
ومن هذه قريش التي تصدّت للتشكيك في صدق النبي مبلغا عن ربه؟ هل هى جماعة فوضوية عرضية؟ أم انها حزب معارض يمثل ثقلا في مواجهة النبي وعرقلة دوره؟
فهل لذلك علاقة بالمنع الأول، الذي قام به من أسس أساسه، ومن كان معه ووافقه عليه من وافقه؟
وما معنى ان يداس بعمد على عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بالادعاء انه معصوم فقط في الوحي؟ فهل كان في غيره خارج إطار التبليغ، ومعفيّا عن التقيّد بالالتزام الكامل في إطار وظيفته؟
قال القاضي عياض: أما أحواله في أمور الدنيا، فقد يعتقد الشيء على وجه، ويظهر خلافه، أو يكون منه على شك أو ظن، بخلاف أمور الشرع .(9)عن رافع بن خديج قال: لما قدم رسول الله المدينة، وهم يأبرون النخل، فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا. فتركوه فنفضت، فذكروا ذلك له فقال: انما أنا بشر، اذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، واذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر.(10) وفي رواية أخرى: أنتم أعلم بأمر دنياكم. وفي منسوب آخر: إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن (11)
قدسية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتمام دوره، بالمقدار الذي نطق به الوحي في قرآنه، وسيرته العطرة التي حفظها له أهل بيته الهداة عليهم السلام، يجب ان تكون الميزان الذي تعارض به بقية الروايات، التي جاء فيها ما يسيئ الى شخصه، ويضع من مقامه الشريف، فيرتاب فيه الجاهلون بحقيقة عصمته، بكل ما يعيق رسالته التي بعث من أجلها، وأمر بأدائها، تماما كما أراده الله منه، دون أن يتخلل ذلك أي مانع يحول بينه وبين بيان شريعته وآدابه، فلا تتناقض مع سلوكه، ولا يتسرب منها أي شك يعتري سيرته، مما يعطّل بالتشكيك أداءه القولي والعملي.
وعلى بعد أربعة عشرة قرنا ونيّفا من رحيل خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، نرى لزاما علينا اليوم، أن نقف وقفة حقّ وصدق، لنسأل أنفسنا هل نحن مسلمون حقا ومحمّديون صدقا؟ اذا كانت الإجابة بالإيجاب، فأين نحن من منه ومن سنته صلى الله عليه وآله وسلم، التي تشكل البيان الشافي لمضامين وحيه، والنموذج الوافي لآداب أحكامه في كل متعلّقات الحياة، ومن المعيب علينا أن ننتسب الى افضل مخلوقات الله تعالى صلى الله عليه وآله وسلم، ونبقى على مسافة فاصلة عنه، ومن غير اللائق أن نرى اعتداء ارتكب على قدسية شخصه صلى الله عليه وآله وسلم مستمرا، منذ أن أطلقت شعاراته عليه، فنمرّ عليه مرورا، غير عابئ ولا مسؤول.
من هنا يبدأ الاختبار بحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم واتّباعه، وليس لنا الا أن نختار بين طريقين:
-         إما أن نكون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فننصره في محنته الى تعرض لها، بإسقاط سنته وإعفاء سيرته ودوره؟
-         وإما أن نكون مع الذين وقفوا في وجهه صلى الله عليه وآله وسلم مهما كانت دوافعهم ولا مبرر لها؟
دعوة صادقة الى تطهير قلوبنا من دنس ما أشاعه فينا المخطئون، وفتح ابوابها من جديد على حقيقة الانسان الكامل، سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، ليحل فيها محلّ الصورة المشوهة التي ركبها الظالمون في أجيالنا، لحرفها عن حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونبوّته، وأعتقد جازما أن من له في قلبه حب وغيرة على هذا الرجل العظيم المقدّس، فإنّه سيكون في صفه دون شك.
المراجع
1 – سورة ال عمران الآية 31
2 – حديث الثقلين أخرجه كل من مسلم في جامع أحاديثه كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أهل البيت ج7ص122، 123، 124/ سنن الترمذي ج5ص663 حديث3788 خصائص النسائي ص41/ سنن الدارمي ج2ص431/مصنف ابن أبي شيبة ج11 ص452 حديث11725 / السنة لابن أبي عاصم ج 2ص336 ح 754 و628 و630 وحديث 1548-1549 – 1553/ طبقات بن سعد ج2ص194 / مشكل الآثار ج2 ص368/ حلية الاولياء لابي نعيم ج1 ص355 /المعجم الكبير للطبراني ج5 ص153-154 ح 4921-4923 وص169-170 ح 4980-4982/ المعجم الصغير الطبراني ج1ص131
3 – جامع احاديث البخاري. كتاب الجهاد والسير. باب هل يستشفع الى اهل الذمة ج4ص69ح3053 وص99ح3168 وكتاب المغازي باب مرض النبي ج6ص9ح4431/ مسلم كتاب الوصية ج5ص75ج1637 / مسند احمد من مسند بني هاشم مسند عبد الله بن عباس ج3ص408ح1935
5 –  سنن ابي داود اول كتاب السنة باب في لزوم السنة ج5ص11ح4604/مسند احمد مسند الشاميين حديث المقدام بن معد يكرب ج28ص410ح17174
6 – سورة المنافقون الآية 1و2
7 – سنن الدارمي المقدمة  باب من لم ير كتابة الحديث ج1ص412ح464/ مسند احمد مسند ابي سعيد الخدري ج17ص149ح 11085 وص 250ح11158 وص443ح11344
8 – مسند أحمد مسند عبد الله بن عمرو ج11ص57ح6510 وص406ح6802/ سنن الدارمي باب  من رخص كتابة  العلم ج1ص429ح501/ سنن أبي داود كتاب العلم باب في كتابة العلم ج4ص41ح3646
9 – الشفاء القاضي عياض ج2ص178/179
10 – مسلم كتاب الفضائل باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره  من معايش الدنيا ج7ص95ح 2362
11 – مسلم ج7ص95 ح 2361 مسند احمد مسند طلحة بن عبد الله ج3ص15ح1395







mardi 12 novembre 2019

من الذي يكره إيران؟



بقلم: محمد الرصافي المقداد
         إلى الذين اشرب في قلوبهم عجل السامري، ومن اتبعهم ببهتان بحق ايران، اقول لهم التفتوا حولكم وانتم في وضع الكاره لها، واختبروا محلكم، واسالوا وانفسكم ان كان مشروعا لكم ومرضيا لأنفسكم، ان تكونوا في نفس الخندق مع اعداء الله ورسوله صلى الله عليه واله، فاستمروا في نهجكم البائس؟ وان عاد لكم رشدكم بعد ظهور خطأ ما اقترفتم، فاستغفروا ربكم، واصلحوا وضعكم قبل فوات الاوان، فايران ذخيرة الله في دينه الحق.

سؤال قد يطرحه كل من تعجب من موجة العداء، التي استشرت هذه السنوات، وازدادت في الاونة الاخيرة ارتفاعا، في ارصدة كل من دخل تحت طائلتها، متقبل لها وناشرا دعايتها، دون ان يتبين حقيقتها، ومن يقف وراء حملتها.
خليط من أصحاب الأفكار من اسلاميين وعلمانيين، فد استهواهم التطرف، وآخرون لا لهؤلاء ولا لهؤلاء، وقفوا من ايران الاسلامية موقف المعادي، الذي حسم أمره بشأنها، معتمدا على مبررات دفعته اليها قناعاته الفكرية، أو وقع فيها تحت تاثير الدعايات المغرضة، التي تفنن الغرب وأسطوله الاعلامي الصهيوني الضخم، في نشرها بين شعوب العالم، نكاية في المشروع الاسلامي الرائد، الذي تبنته إيران بنظامها الاسلامي الذي كان من المفترض ان ينظر اليه بعين الواقعية والانصاف، لا يعين التطرف والاجحاف.
والى  جانب هؤلاء المغرضين والحاقدين، نجد المنظومة السياسية الاستكبارية والصهيونية الغربية، قد جمعت في صفها أنظمة عربية، تأصلت في  العمالة والتبعية لأعداء الاسلام، واقترنت بذلك التوجه، فكسف وجهها رغم زخرفه الخادع، وظهرت في رواجه  توأمه، نصبت همها في ارضاء أسيادها، ولم يعد يهمها من امر مصالح شعوبها ومصداقيتها شيء، سوى ارضاء دول الاستكبار، وتحقيق رغباتها وتنفيذ سياساتها، بشان قضايا التحرر والانعتاق من استعمار، ظل يلازمها الى ما بعد الاستقلال الوهمي، الذي اضفي على تاريخ حركتها الوطنية، لتتحول تلك البلدان من حال سيئة الى حال أسوأ، من اجل ان تبقى تحت طائلة سياسة الترغيب والترهيب، التي تمارسها بحقها  الدول الغربية المعتدية والظالمة.
اذا بحثنا عن اسباب معاداة وكره ايران، بعدما كانت لها حظوة ومكانة، في ظل الحكم البهلوي العميل للغرب والصهيونية، فاننا لن نجد عناء يذكر في الامساك به، وهو ان الشاه المقبور، كان خادما وحارسا امينا للمصالح الأمريكية والبريطانية، متوددا للكيان الصهيوني، الى حد الاعتراف به، من اول انتصابه محتلا لارض فلسطين، وقدس الامة الاسلامية سنة 1948.
اما بعد سقوط نظام العمالة في ايران، بثورة شعب ابي، تحت قيادة علمائية فذة، غلبت مصلحة الدين والوطن, على اي شيء اخر، وصدقت في وعودها، واخلصت في اعمالها، مما تسبب في قطع ايدي الاستعمار، والهيمنة الغربية على مقدرات ايران، واطاح بمنظومة استغلالها بصورة مروعة، لم يسبق ان لقي مثلها الغرب المعادي، فبادرت امريكا وبريطانيا بفتح حساب العداء لايران ونظامها الاسلامي، مباشرة بعدما ثبت لديها، ان ايران ما بعد ثورة 11/2/1979، لم تعد ايران التي كانتا تمتازان فيها بحصانة جواسيسها، التي كانت مخصوصة لهم مع عبيد الشاه.
نعم لقد تغير وضع الغرب والصهيونية هناك، بعدما تاكد الشعب الايراني، ان احد اهم اسباب مصائبه، هم هؤلاء الذين دخلوا بلاده بمخابراتهم، مستغلين تواطئ الشاه معهم، فاغلقوا دونه باب ثقافة التبعية، وفتحوا باب ثقافة الثورة الاسلامية، لتظهر منظومتهم الاسلامية، في هذا الزمن الذي كادت معالم الاسلام المحمدي الاصيل، ان تنزوي بعيدا عن مجالاته، التي انزل من أجلها، لادارة حياة الناس، وفق الاحكام التي ارادها الله شريعة عدل ومساواة بين البشر.  
كره الغرب وعداؤه لايران استتبعه كره الانظمة العميلة لها بسبب نظامها الاسلامي وسياستها المتطابقة مع مقاصد الشريعة، وتبنيها لقضايا الامة الاسلامية، كتحرير فلسطين، واستنقاظها من مسار التبعية والعمالة، فعملوا معا على تشويه صورتها لدى شعوبهم، وكان لاعلامهم دور في تقديم ايران على اساس عنصري فارسي، وديني مجوسي بعيدين على واقع إيران الاسلامي الذي لا تشوبه شائبة، وبذلك امكن لهم ان يحدثوا خرقا كبيرا، بين ما تسعى ايران للوصول اليه، من توعية شاملة للدول الاسلامية، وطلائعها الفكرية وقواعدها الشعبية، وبين انظمام الاغلبية لمشروعها الحقيقي، في التحرر من تبعات اعداء الاسلام، ومؤامراتهم المتواصلة لاخضاع شعوبه الى مشيئتهم.  
وان أسوأ حقد على ايران الاسلامية، قد ظهرت ملامحه القبيحة من داخل المنظومة الاسلامية، ان شئنا التعبير عنه بهذه المقاربة، من طائفة أصرت على اتباع نهج التكفير، لكل من خالفها من المسلمين، وجعلت من الشيعة هدفها الاول، في نبذ طائفتهم ووسمها بابشع النعوت، بما يخالف ابسط قواعد الاخلاق الاسلامية في حرمة المسلم ايا كان انتماؤه المذهبي، وان عجبت من سلوك الوهابية، صنيعة بريطانيا في الحجاز، فاعجب من هؤلاء الذين يستقبلون الحجاج الايرانيين، القاصدين اداء مناسك الحج  بالترحاب والورود، بينما تستمر حملاتهم التكفيرية، عبر وسائلهم الاعلامية المتعددة، وان عشت اراك منهم الدهر عجبا.
وبقدر كره الأعداء لايران الاسلامية، وعرقلتهم  لمشاريعها، بالدعايات الملفقة،  وبالعقوبات المفروضة عليها، بقدر ما حبا الله تلك البلاد ونظامها الاسلامي وشعبها، من فضله وتوفيقه ورعايته، ومن تابع مسيرتها للمظفرة، على مدى 40 عاما، عرف انها سائرة في طريق تفوقها وتميزها بأعين الله، ولن يثنيها عما عزمت عليه شيء، مهما عظم خطره وكبر تحديه، ومن كان الله معه، فلن يضره كيد عبيد الدنيا.
ايران برهنت اليوم ان عزمها الذي عقدته لبلوغ اهدافها الاسلامية، لم يفل فيه ارجاف ولا اجحاف بحقها، ومنظومتها السياسية والاقتصادية والامنية والاجتماعية، متماسكة الى ابعد حد، عجزت عن اختراقه مؤامرات خطيرة، لو سلط معشارها على نظام اخر لسقط سريعا، وهذا دليل على ان ايران بما وصلت اليه من تطور كبير في جميع المجالات، رغم كل العراقيل التي وضعت في طريقها، مسددة ومنصورة ومحفوظة من خالق، اختارهم من دون بقية الشعوب الاسلامية، ليكونوا حملة راية دينه الخاتم، والنصوص التي في تراثنا الاسلامي، خصوصا تفاسير القران، قد قطعت حجة من ناصبها العداء، من داخل مجتمعاتنا الاسلامية، وقاسموا اعداء الاسلام من مستكبرين وصهاينة، كرها سيعود عليهم بالوبال دنيا وآخرة، ولله الامر من قبل ومن بعد.     

samedi 9 novembre 2019

تنزيها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن دعاوى المحرّفين




بقلم: محمد الرصافي المقداد
معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أوكد المعارف الإسلامية، وثالث اركان العقيدة بعد التوحيد والعدل الإلهي، ومن واجب كل مسلم أن يعرف نبيه، وشخصا مقدسا، وسيرة عطرة، وآدابا وأخلاقا، جعله الله واسطة بينه وبين خلقه، بعد أن اصطفاه عليهم، وميزه فوقهم بخصال، وأيده بمعاجز وكرامات لتدعم جانبه وتظهر نبوءته وحقيقة علاقته بخالقه.
هذه المعرفة التي يسعى إليها كل عبد صالح، تتطلب منا بحثا جادا، واستقصاء متأنيا، في مصادر إسلامية، انخرطت في المساس من شخصه المقدس واذيته، كما آذاه بعض من عاشره، ولم يراعوا فيه مكانته، ولا ما قدمه اليهم من خير، لو انهم اجتهدوا في أدائه حقه، ما استطاعوا الى ذلك سبيلا.
وفي هذا الاطار التعريفي بأفضل صفوة الله، يجدر بنا أولا، أن نتناول مصطلحا متعلقا به، فنسلط عليه ضوء الحقيقة، لنستخلصه من خيوط الوهم التي التفّت عليه، لتغطي مقصده الذي أراده الله منه.  
ما معنى النبيّ الأميّ ؟
ورد في القرآن الكريم قوله تعالى : " هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين." (1)
وقوله تعلى: " الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل.." (2)
ومع ان محتوى الآية لا يفيد في شيء الى ما ذهب اليه المسيئون، من كون النبي لم يتعلم، وهو لا يحسن القراءة والكتابة، وعلى ذلك الأساس اصطلحوا الأمي على من لم يتعلم، وعنونوا حملاتهم الاجتماعية الموجهة للجهلة بمحو الامية.
فهل كان مقصد الوحي من الأميّ والأميين هو ما ذهب إليه أدعياء العلم؟
إنّ في تدبر كتاب الله لمعرفة، يستخلصها المؤمن من خلال تعهده له، ففيه ما يفسر بعضه بعضا، كما هو شأن هذا المصطلح الذي نحن بصدده، ولكنه يبقى مرتبطا بتزكية ثقله (أهل بيته عليهم السلام)الذين أوصى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم باتباعهم بقوله: "اني تارك فيكم الثقلين، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي." (3) فعندهم مفاتيح أبوابه، وخزائن أسراره، قرنهم الله ورسوله بكتابه واعتبروهم ثقله الذي لا غنى عن طالب قرب ومعرفة عنهم، فهم البيوت التي أمرنا الله أن نسكن ونلجأ اليها من ظلمات الجهل وزيغ الضلالة، محذّرا من أن نأتيها من غير أبوابها. فقال: ".. وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى واتوا البيوت من ابوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون." (4)
وقد ورد في مصادر أئمة الهدى من اهل البيت عليهم السلام، ان مفاد الأميين، الذين ليس معهم كتاب "رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم" من خبائث العقائد والأخلاق "ويعلمهم الكتب والحكمة" القرآن والشريعة "وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" من الشرك وخبث الجاهلية. القمي عن الصادق عليه السلام: " في الأميين" قال: كانوا يكتبون ولكن لم يكن معهم كتاب من عند الله، ولا بعث إليهم رسول فنسبهم الله إلى الأميين. وفي علل الشرائع عن الجواد عليه السلام إنه سئل لم سمي النبي الأمي فقال: ما يقول الناس؟ قيل: يزعمون أنه إنما سمي الأمي، لأنه لم يحسن أن يكتب. فقال: كذبوا عليهم لعنة الله، انى ذلك؟ والله يقول: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة". فكيف كان يعلمهم ما لا يحسن؟ والله لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ ويكتب باثنين وسبعين أو قال بثلاث وسبعين لسانا، وإنما سمي الأمي، لأنه كان من أهل مكة ومكة من أمهات القرى، وذلك قول الله عز وجل: " لتنذر أم القرى ومن حولها." وقد مضى هذا الحديث في سورة الأعراف.(4)
وفي القرآن شاهد، على أن معنى الأميّين، منحصر في القوم الذين لم ينزل فيهم كتاب، قال تعالى: " وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم."(5)  بما معناه الواضح في الآية أن خطابها موجّه الى فريقين: فريق أؤتوا الكتاب وأخرون لم يؤتوه، وبذلك تنجلي عنا غشاوة من الغشاوات، التي ركبها في تراثنا اعداء الاسلام المحمدي الأصيل، ليصرفونا عن المعارف الصحيحة، التي لا تكتسب إلا باتباع الأئمة الهداة عليهم السلام، وللحديث في مجال تنقية ما ألصق بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اباطيل بقية..

المراجع:

1 – سورة الجمعة الآية 2
2 – سورة الاعراف الآية 157
3 – حديث الثقلين أخرجه كل من: مسلم كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل علي بن ابي طالب ج7ص122ح2408 / سنن الترمذي أبواب المناقب  عن رسول الله باب مناقب اهل البيت ج6ص125ح3788/ مسند احمد مسند ابي سعيد الخدري ج17ص169 ح11104 وص211ح11131 وص308ح11211 ومسند الكوفيين حديث زيد بن ارقم ج32 ص 10 ح 19265 وص64ح19313/ سنن الدارمي ومن كتاب فضائل القران باب فضل من قرأ القرآن ج4ص2090ح3359...
4 – سورة البقرة الآية 189
5 – تفسير الصافي الفيض الكاشاني ج5ص171 / علل الشرائع  الصدوق ج1ص 124
6 – سورة ال عمران الآية 20


                   


jeudi 7 novembre 2019

هذا هو نبيّنا محمد .. فأين نحن منه؟



بقلم: محمد الرصافي المقداد
عرفه علماء الغرب ومفكروه، فأثنوا عليه بما هو أهله، وجهله قسم كبير من أهله، ذلك هو نبي الله الخاتم محمد بن عبد الله، تمناه غير المسلمين أن يكون منهم، وأهمله المنتسبون اليه، حتى كادوا يغيّبونه من حياتهم.
جاء بعد فترة من الرّسل ليختم مسيرتهم الاصلاحية، ويضع ثقله في هداية الناس كافة، فكان الجوهرة الأثمن في تاج النبوّة، قضى حياته في نشر مكارم الاخلاق، وشكلت سيرته العطرة، حلقة اساسية  لفهم مقاصد الدين الاسلامي غايات وأحكاما، فكان بحق قرآنا متحركا بين أوساط مجتمعه، ناطقا بآدابه، ومعبرا بسلوكه عن اهدافه، في نشر قيم العفو والتسامح، وغرس مفاهيم حسن المعاملة بين الناس، بقطع النظر عن افكارهم ومعتقداتهم، وشكل شخصه الكريم، ووجوده في ذلك الزمن وفي كل زمان، منارة حق، وعنصر هداية لفعل الخير، والحث عليه دون الانتظار من أحد جزاء أو شكورا. 
وقد استطاع بعد ثلاثة عشرة سنة من مقاومة أعدائه من المشركين، متسلحا بالصّبر والأمانة والكرم ورفعة الخُلُق، أن يؤسس بعد هجرته المباركة، نظاما إسلاميا عادلا، ويبني مجتمعا متآلفا متعاونا، متكاتفا في السرّاء والضرّاء، كان قبل ذلك غارقا في ظلمات جاهلية جهلاء، عاش فيها الناس معتدين على بعضهم  بالإثم والعدوان، فأخرجهم من عمى الظلمات الحالكة، الى نور الهدى والمعرفة وإبصار الحقّ، وقوّم اعوجاج جيل، كان بعيدا عن انسانيته، مجردا من قيمه، فأعاده بعقله وتمام حكمته الى جادة الحق، وكان بحق مثال الانسان الكامل، الذي جمع حوله لفيف الساعين، الى معرفة كنه التوحيد وسر الوجود.
ابو القاسم محمد نبي الرأفة والرحمة، ميزت حياته كلها هاتان الصفتان العظيمتان، ولازمتاه منذ بعثته، الى ان التحق بالرفيق الأعلى، داعيا الى اعتمادهما، والتحلّي بهما، استنانا بسنة الله تعالى في رحمته، فليس بمؤمن من لا يرحم من هم دونه من الخلق، وليس بمسلم من لم يسلم الناس من يده ولسانه، وتلك حقيقة الالتزام بالإسلام بمبادئه الأساسية العامة.
نبيّنا الذي بوأه الله مكانة عالية ومتقدمة، على بقية انبيائه ورسله، فكان إماماهم في ليلة الاسراء والمعراج، واصطفاه لذاته فجعله حبيبا، وخصّه من المكرمات ما لم يحظى بها إخوانه من صفوة الله عليهم السلام، جاء ذكره في كتاب الله فقال فيه شأنه آيات عديدة، بيّنت لنا مكانته وعرّفت لنا قيمته:
منها: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم." (1)
ومنها: "هو الذي بعث في الامّيين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين." (2)
تمحورت اوامره في حكم واحد، وهو الاتباع والسمع والطاعة، فما نطق به اليهم، هو لسان وحي وعصمة، وليس كلام هجر، كما حلا لبعض من صحابته اتهامه به، قبل أربعة أيام من رحيله.
قال تعالى:" الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطّيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النّور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ." (3)
وقال جلّ وعلا: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحبكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم." (4)
السؤال المطروح علينا اليوم جميعا يقول: أين نحن من رسول الله ؟ أين نحن من هذا المثال العظيم؟ وماذا قدمنا له ليرى صالح أعمالنا فتسر بها نفسه ويباركها ويرضى عنها؟
بكل الخصال التي ذكرها الله في كتابه، بشأن أفضل مخلوقاته، ظهر سيدنا محمد بن عبد الله في هذه الدنيا نموذجا يحتذى به، وقدوة للصالحين من عباده، وحقق الهدف العام والشامل لبعثته المباركة، لكنه مع كل الكمال الذي ظهر به، لم يشفع ذلك له عند طائفة من صحابته، فعارضوه وعصوا أمره، وتنكروا لشخصه، كأنهم لم يعرفوه من قبل، وكانت احداث أخريات أيامه، معبّرة على سوء ما قوبل به.
قال تعالى: " ولئن سألتهم  ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون." (5)
قال تعالى: " وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين." (6)
وإننا بهذه المناسبة العطرة، من ذكرى ولادة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، اذ نؤكّد على ضرورة اعادة قراءة متأنّية من سيرته المباركة، ندعو المؤمنين دعوة صدق للعودة الى رحابه والارتواء من معين آدابه، فليس هناك من ثمرة أينع من ثمرته التي تركها لنا، وخصّ أهل بيته عليهم السلام بها خالصة نقيّة، محجة بيضاء لا تشوبها شائبة تحريف، لنقلها بأمانة الى اجيال الأمة الاسلامية.
هذا ولم يلحق الاسلام ضرر، بالقدر الذي ألحقه بهم اشباه العلماء واتباعهم من جهلة الدين، فقد أسهم هؤلاء بشكل كبير، في تغييب أساسيات الفكر الاسلامي المحمّدي الأصيل، واستبداله بمفاهيم لا علاقة لها به، في ظاهرها تشدد مفرط، وفي باطنها انحراف عن حقيقة العقائد الاسلامية، بينما الاسلام وسطية وتعقّل، لا تهوّر فيه ولا إرهاب، كما يدّعي عليه اعداؤه.
إنّ الذي يثبت انتمائنا الى هذا الدين الخاتم، ليس مجرّد ادّعاء، أو انتساب شكلي، أو اعتبار وراثي، فكل ذلك محض ادّعاء فارغ، ليس له من الواقع شيء، وما يثبت انتماءنا هو سعي عمليّ وتقدّم حقيقي نحو نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم، من أجل أن نلتحق به، فنكون في ركبه وضمن وفده المسافر الى الله سبحانه.
لقد كان الامام علي عليه السلام أعلم الناس وأعرفهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما خلص لنا من براثن المغيّبين له ولدينه الخاتم، من بيان فضله ونقل صفاته وخصائصه، الى الأجيال التي تلته، من ألسنة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، ثقل كتاب الله وترجمان آياته وأحكامه يثبت لنا كرم عنصره ونفاسة معدنه وتفرّده في الكمال البشري فلا احد يدانيه مهما علا شأنه، وقد حاولت أن اجمع هذه التعابير في نص واحد جاء كما يلي:
قال الامام علي بن أبي طالب عليه السلام في التعريف بأخيه في المؤاخاة صلى الله عليه وآله وسلم: " كان أكرم الناس عشرة، وألينهم عريكة، وأجودهم كفاً، من خالطه بمعرفة أحبّه، ومن رآه بديهة هابه (7).. يَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، ويَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ، ويَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، ويَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ، ويُرْدِفُ خَلْفَهُ (8)..حَقَّرَ الدُّنْيَا وصَغَّرَهَا، وأَهْوَنَ بِهَا وهَوَّنَهَا، وعَلِمَ أَنَّ اللهً زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً، وبَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وأَمَاتَ ذِكْرَهَا عَنْ نَفْسِهِ، وأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً، أَوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً. بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً، ونَصَحَ لأُمَّتِهِ مُنْذِراً، ودَعَا إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً، وخَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً (9)..أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً، وأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وعَلِمَ أَنَّ اللهً سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ، وحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ، وصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللهُ ورَسُولُهُ، وتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ الله ورَسُولُهُ، لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً لِلهِ، ومُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللهِ ... فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً، ولَا يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً، ولَا يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ، وأَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ، وغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ، وكَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ. (10)
وعلي عليه السلام على ما اجتمعت فيه من مكارم وخصال كان كما أخبر عن نفسه: " ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه (11) يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به" ..(12) يدعونا بأن نكون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما في الكينونة من معنى ومقصد، فلا نتردد في تلبية ندائه، الذي وجّهه الينا من خلال تراثه، عاملين بما صح منه، وما صحّ يكفي لنهوضنا من كبوة الابتعاد عنه:
" تَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الأَطْيَبِ الأَطْهَرِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى، وعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى. وأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، والْمُقْتَصُّ لأَثَرِهِ. قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً، ولَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً ... ولَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَا يَدُلُّكُ عَلَى مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وعُيُوبِهَا: إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ، وزُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ، فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ: أَكْرَمَ اللهُ مُحَمَّداً بِذَلِكَ أَمْ أَهَانَهُ، فَإِنْ قَالَ: أَهَانَهُ، فَقَدْ كَذَبَ ـ واللَّهِ الْعَظِيمِ ـ بِالإِفْكِ الْعَظِيمِ، وإِنْ قَالَ: أَكْرَمَهُ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهً قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ، وزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ، فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ، واقْتَصَّ أَثَرَهُ، ووَلَجَ مَوْلِجَهُ، وإِلَّا فَلَا يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ، فَإِنَّ الله جَعَلَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم عَلَماً لِلسَّاعَةِ، ومُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ، ومُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ، خَرَجَ منَ الدُّنْيَا خَمِيصاً، ووَرَدَ الآخِرَةَ سَلِيماً، لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ، فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللَّهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ، وقَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ.(13)
وكان من دعائه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:
اللهم اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ، ونَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ ورَسُولِكَ، الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ والْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ، والْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ والدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَبَاطِيل، والدَّامِغِ صَوْلَاتِ الأَضَالِيلِ، كَمَا حُمِّلَ فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِكَ، غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ ولَا وَاه فِي عَزْمٍ، وَاعِياً لِوَحْيِكَ حَافِظاً لِعَهْدِكَ، مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ، حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ، وأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ، وهُدِيَتْ بِه الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ والآثَامِ، وأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلَامِ ونَيِّرَاتِ الأَحْكَامِ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ وخَازِنُ عِلْمِكَ الْمَخْزُونِ، وشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ وبَعِيثُكَ بِالْحَقِّ، ورَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ .(14)
هذا نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم وهذه آثاره بيننا، لا تزال تحملها مدونات الحفاظ، وهذا فرقانه بما حواه من دعوة الى اتباعه، يحثّان على الالتزام بسننه، التي هي سنن الله بلا فصل،
إن كنا مسلمين بحق، ونرجو من خلالها الله واليوم الآخر، لا نخاف في ذلك لومة لائم، طريق فقط يوصل الى رضوان الله، مرتبط باللحاق بالنبي
صلى الله عليه وآله وسلم الاقتداء به، تعالوا نشرّفه بحسن اتباعنا له، فهل من ملتحق في ذكرى ميلاده المبارك؟
المراجع:
1 – سورة التوبة الآية 128
2 – سورة الجمعة الآية 2
3 – سورة الاعراف الآية 157
4 – سورة آل عمران الآية 31 
5 – سورة التوبة الآية 65
6 –سورة ال عمران الآية 144
7 – بحار الأنوار  المجلسي ج 16  ص 147
8 – نهج البلاغة ج 2  خطبة 160  ص 59 /  مكارم الاخلاق الطبرسي ص 10
9 – شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد ج7ص217
10 – نهج البلاغة ج2ص59.
11 – الفصيل ولد الناقة
12 – نهج البلاغة الامام علي ج2ص157
13 – نهج البلاغة ج2 الخطبة 160
14 – نهج البلاغة ابن ابي الحديد ج6ص138