jeudi 25 janvier 2024

ماذا يعني حبّ علي عليه السلام؟

 


لم يختلف المسلمون طوال تاريخهم في شخص، مثلما اختلفوا في علي بن ابي طالب عليه السلام، فمنهم من بخسه حقّه، وتفاوتوا في ذلك البخس، بين من رآه كبقية كبار الصحابة لا يزيد عليهم في شيء، وبين من بلغ به البغض مبلغ انكار أغلب خصائصه، التي خصّه بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهؤلاء هم الغالبية من عامة المسلمين، وذلك عائد إلى جهلهم بما جاء في سيرته من سبق إلى دين الله، وعطاء وبذل وتضحية في سبيله، لم يجاريه عليها أحد، استأناسا باتباع مناهج حكامهم الظلمة، إتّباع المُكره الذي لا حيلة له، والمُضطر الذي لجأ إلى التّقية، والطامع بما في أيدي هؤلاء الظلمة  من متاع يرجو نواله منه.

ومنهم من أعطاه بعض حقّه، وهؤلاء هم نسبة قليلة من المسلمين، عرفوه من خلال ما كُتِب من معلوم سيرته، رغم ما لحقها من طمس وتغييب، فآمنوا به إماما ووليّا وقائدا، وعملوا على نهجِ سبيله قدر الإمكان، لأنّها سبيل وعرة المسلك، محفوفة بالأشواك زاد سالكيها الصّبر والأناة، فلقيهم ما لقيه من تسقيط واستهانة، وحفّتهم المخاطر من كل جانب كما حفّته طوال حياته، ونالهم ما ناله من العناء، وكانت خاتمة أغلبهم خاتمة واحدة هي الشهادة، وكأنّ ذلك قدرُ مقْدور على خاصة أوليائه وباقي شيعته، ومنهم من أعتبره فوق البشر فأحلّه مقاما أنكره في حياته، محذّرا من مغبّة تأليه لا ينبغي إلا لله وحده، وهؤلاء والحمد لله هم قلّة القلّة، اندثروا فلم يعد لهم وجود منذ أن صاح بها صائحهم، ولم يؤلّه هؤلاء القلة عليا إلّا لأنهم شاهدوا منه ما لم تسعه عقولهم، ولم تستوعبه أفهامهم، فقالوا فيه ما قالوا، وسلكوا إليه مسلكا خاطئا.

والإمام علي عليه السلام مع ذلك كتاب مفتوح، لمن أحسن قراءته، وأحسن فهم مصطلحاته، رغبةً في معرفته، رغبةَ طالبِ حقيقة موازية لدور الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته، فغير ممكن معرفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته، من دون معرفة بعض ما جاد به كتاب عليّ عليه السلام، لأنّ ما سطّره الحفاظ عن شخصه المُقدّس، بقي مرموزا في صُحفٍ مهموزة (1)، بالرفض، موسومة(2) بالغلوّ، في نظر من قصُرت به حيلته عن إدراك بعض مواسِمِها (3). 

وإدراكا من الإمام علي عليه السلام بأنّ طريقه وعِرةٌ، وأنّ سيرته فيها صعبة النّسج على منوالها، فقد نبّه عليها من خلال تلميحاته وتحذيراته ونصائحه، فقد نقلوا عنه: (هلك فيّ رجلان: محب غالٍ، ومبغض قال)(4) وبلفظ مختلف: (يهلك فيّ رجلان: محب مفرط وباهت مفتر)(5) (سيهلك فيّ صنفان: محب مفرط، يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس فيّ حالاً النمط الأوسط فالزموه.) (6)

كان الإمام علي عليه السلام يدرك تماما، أن اتباع نهجه مُكْلِفُ لمن سلكه وصبر عليه، ومن وقع في أسر الدنيا، وصفّدته بأصفاد بهارجها، واستغوته بزخارف زينتها، يستحيل عليه أن يقبل منها بشيء يسير، وفي قلبه لهف عليها، كيف يلتقي مع زُهْدِ رجل طلّقها طلقة بائنة لا رجعة فيها، من صحِب عليا ومضى في طريقه، لا يمكنه أن يصحب من حاربه، وأظهر بغضه وعداوته، ومن استوى عنده عليّ ومعاوية يترضّى عليهما كلّ حين، وهو غير مُدْرِك أنّه دخل باب بهْتِ شخص ومقام عليّ عليه السلام، بمساواته مع طلقاء أخيه وخصماء حقوقه، وبالتالي فقد وضع نفسه موضع المبغض لرجل، أقام صرح الإسلام بسيفه وجهد يمينه وشماله، وسقاه بعصارة جراحه ونبض قلبه ورجحان عقله.

والدنيا لها أهلها وطلّابها، ما كان لعليّ قربٌ منها، وزهده فيها كان مضرب الأمثال، هي وأتباعها وعليّ عليه السلام وأتباعه لا يلتقيان أبدا، ولا تعلّق من تعلّق بها حبّا وميلا وافتتانا،  وفي قلبه حبّ حقيقي لعلي عليه السلام، وإن صدر عن أي شخص تعبير مما يستشفّ منه حبّ، فمجرّد كلام ظاهر لا ينطبِقُ على باطنٍ فيه حبّ علي عليه السلام وموالاته، فإن من اكتفى ب(طمريه وقرصيه) من الدنيا بعد ما لفظها من حياته لفظ النواة، يستحيل أن يكون معه في صفّه عبد للدينا، وليس عبد الله بن سبأ سوى شخصية وهميّة، اختلقها بنو أميّة لضرب جبهة علي عليه السلام وتشويه صفّه، الذي طغا عليه عبّاد أهل زمانه من شيعته، فكيف يجد منحرف فيه مكانا بين هؤلاء الزّهاد العبّاد؟ 

جاء عن ضرار بن ضمرة الضّبائي عند دخوله على معاوية، ومسألته له عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: فأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، ولقد أرخى الليل سُدوله، وهو قائم في محرابه، قابضٌ على لحيته، يتململ تملمُل السّليم(7)، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: (يا دنيا يا دنيا إليك عني، أبي تعرضت أم إلي تشوّقت؟ لا حان حينك، هيهات غري غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه من قلة الزاد، وطول الطريق، وبُعد السفر، وعِظمِ الموْرد، وخشونة المضجع) (8)

عن أبي بصير قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم جالسا إذ أقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله)): إن فيك شبها من عيسى بن مريم (9) ولولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك قولا، لا تمرّ بملأ من الناس، إلا أخذوا التراب من تحت قدميك، يلتمسون بذلك البركة.) (10) ومع ذلك فقد ترك لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبيانا لما جاء في شأنه من وحي، ما يكفينا مؤونة البحث فيما عداه، ففي قوله تعالى: (إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (11) أبداها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عندما تصدّق علي عليه السلام بخاتمه وهو راكع، قائلا: (عليّ وليّ كل مؤمن ومؤمنة بعدي)، واختتم توجيهه لأمّته بتنصيبه يوم الغدير: (من كنت مولاه فعلي مولاه)(12) إماما وهاديا من بعده، فحسدوه على ذلك المقام الرفيع، وعملوا على إزاحته منه بالمكر والدهاء والحيلة، فتمكنوا من ذلك عند انشغاله بتجهيز أخيه إلى مثواه، مستغلين سذاجة وانقسام الأنصار.

لقد غصبوا حكم علي عليه السلام، لكنهم لم يتمكّنوا من ازاحته عن مقامه في ارشاد الأمّة وهدايته، فقد باءوا بفشل ذريع أوقفنا على ضعف رصيدهم العلمي والديني، وباءوا بعجزهم أمامه فأقرّوا به مسلّمين له تفوقه ونبوغه عليهم، وبقي أول الناس اسلاما، تبيعا ملازما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يفترق عنه في حل وترحال، هو نفسه ذلك المولود المبارك، الذي ولدته أمّه فاطمة بنت أسد في جوف الكعبة، بعد أن انفتح لها الرّكن اليماني منها، دالا إلى اليوم على تفرّد عليّ عليه السلام على من سواه بتلك الخصوصية الفريدة، ففي شهر الله رجب وفي أول أيامه البيض ولد مولى المؤمنين في بيت الله الحرام، ليكون ذخيرة صناعة مجد الإسلام بساعده ومعرفته التي حباه الله بها عن طريق نبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

حبّ علي عليه السلام إيمان وبغضه نفاق وكفر، وهذا عهد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم له: (والله انه لمِمَّا عهد إليّ رسول الله، أنه لا يبغضني إلا منافق، ولا يحبني الا مؤمن) (13) وفيه دلالة صريحة، على أنّ عليا عليه السلام مثل علامة إيمان، دالة على أنّ من أحبه كان مؤمنا، ومن أبغضه كان منافقا، ولم يكن المنافقون وخبيثي الولادة إلا ببغضهم لعليّ عليه السلام، محرار مقياس الإيمان حبّ علي عليه السلام، ومحرار مقياس النفاق والكفر بُغضه، وكان حقيق له أن يكون قسيم الجنّة والنّار، فطوبى لمن أحبّه وسلك نهجه وعمل بمقتضى هدْيِه، وخيبة مسعى لمن أبغضه وحاد عن نهجه وحاربه، وأسفا لمن لم يدرك إلى اليوم حقيقة شخص عليّ وبقي تائها عن نهجه، وما هو سوى الإسلام المحمّدي الأصيل، وغير نهجه هجين اسلام الملوك والسلاطين.

حبّ عليّ عليه السلام جُنّة، وبغضه عذابٌ ودَنّة (14) سعِد في الدنيا والآخرة من أحبّه، وتعس في الدنيا والآخرة من فاته حبه، وليس سهلا أن تحب عليّا، فعليّ تجارته مع الله وتجارة غيره من أنفسهم يرفعونها بالتظاهر والتباهي، فمن أحبّ عليا سلك نهجه القويم، ذلك الصراط المستقيم الذي أنعم به الله عليه وعلى من اتبعه، عليّ باختصار كما اختصر هو مدى ارتباط المؤمنين به في قوله: ( لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجماتها (15) على المنافق على أن يحبني ما أحبني، وذلك أنه قضى فانقضى على لسان النبي الأمي أنه قال: لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق. (16)

من كان مؤمنا حقيقيا فعليه أن يسترجع موقفه السلبي من علي عليه السلام، ويعطيه حقّه في الفضل والدّور والمكانة عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، شخصيّة الإسلام الأولى بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أعزّت الدين فأعزّها بثلة من المؤمنين، الذين إذا ذُكِروا فس مجلس سبحت الملائكة بأنفاسهم، وتنزلت الرحمة بفضل تضحياتهم، ولولا علي وأخيارُ أحبائه، لما لأندرست معالم الدين، وذهبت من بعد ذهاب رسول رب العالمين، والسلام على عليّ مولى الموحّدين في ذكرى مولده، نسأل الله سبحانه أن يثبتنا على نهجه، ويزيد من تعلّقنا به حتى نلقاه يوم لا ينفع حب لا يكون فيه حبّ علي عليه السلام.

.    

 

 

المصادر

1 – مُعابة مَطعونة

2 – مُعلَّمةً

3 – أوقات بروزها

4 – نهج البلاغة الإمام علي الحكمة رقم 117 الطالب العالية ابن حجر ج16ص135// تاريخ دمشق ابن عساكر ج42 ص196/297//

5 – نهج البلاغة الإمام علي الحكمة رقم:469//أنساب الأشراف البلاذري ج2ص119

6 – نهج البلاغة الإمام علي عليه السلام الخطبة رقم 125

7 – الملدوغ أو الجريح

8 –  بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 40 ص 345

9 – زهده وعبادته واختلاف المسلمين فيه إلى فرق

10 – الكافي الشيخ الكليني ج8ص57

11 – سورة المائدة الآية 55

12- سنن الترمذي أبواب المناقب ج6ص79ح3713//سنن ابن ماجة المقدمة باب فضل علي بن أبي طالب ج1ص133ح116 وص136ح121// مسند احمد بن حنبل مسند علي بن أبي  طالب ج2ص71ح641 وص 262ح950 وص 268ح961 وص434ح1311 وأول مسند الكوفيين حديث البراء بن عازب ج30ص430ح18479 وج32ص75ح19328 ومسند الأنصار حديث بريدة  الاسلمي ج38ص32ح22945 ...

13 – مسند أحمد مسند علي بن ابي طالب ج2ص71ح642/ سنن الترمذي أبواب المناقب ج6ص94ح3736/ سنن النسائي كتاب الايمان ج8ص115ح5018/

14 – الكلام الغير مفهوم

15 – بأجمعها

16 – بحار الأنوار العلامة المجلسي ج39ص296

 

 

 

 

 

mardi 9 janvier 2024

كلمة يجب أن تقال لكلّ دعيّ



قال أحدهم وهو شيخ - وعادة الشيوخ التميّز - لن يحرر فلسطين إلا أبناء علي عليه السلام، وهو الكلام فضفاض وغير دقيق، ومجرد دعوة طائفية لن تصلح حالنا، وأمتنا في غنى عنها، وبحاجة أكيدة إلى مراجعة صادقة وشاملة لتتحسس سبيل وحدتها، ففي اجتماعها وألفتها قوة وأي قوة، وعملٌ بمقتضى قوله تعالى: (إن هذه أمّتكم أمّة واحدة) (1) كان بالإمكان القول بأن فلسطين لن تتحرر إلا باجتماع هذه الأمة المتفرقة، والمجزأة بفعل دعاة التفرقة والتجزئة، وهؤلاء كثيرون في عالمنا، ركبوا رؤوسهم ومضوا في خطبهم ينمّقون لمستمعيهم كلاما ليظهروا به في مقام العلماء الأجلاء أصحاب الرؤى الواسعة والعميقة، فينبهرون بها ويرون من خلالها مخاطبهم على درجة كبيرة من العلم والمعرفة والتقوى.

فوفي ما قاله هذا الشيخ شيء من الصحّة، فسيكون للمسلمين الشيعة النصيب الأكبر في هذا التحرير، وسيشترك فيه رجال من إيران ولبنان واليمن والعراق وسوريا وافغانستان وباكستان، ودول أخرى اشتركت شعوبها في محور مقاومة الإستكبار والصهيونية، تأثّرا بفكر الثورة الإسلامية الإيرانية، والذي ترسّخت دعائمه، ببركة قيادة الإمام الخميني رضوان الله عليه، واستلام الولي القائد الإمام الخامنئي لراية التحرير، ليقود المسيرة من بعده، وهو الذي لقّبه الشهيد بهشتي بالشهيد الحي، بعد أن تعرّض لمحاول اغتيال جبانة، نجا منها بفضل الله تعالى وتمام صدق جهوده.

محور المقاومة هذا أبعد مدى في أهدافه من الوقوف عند تحرير فلسطين، فمن الهين الخلاص من الكيان الغاصب، ونحن نرى اليوم كيف وقفت حماس والجهاد بندّية في وجه قوات الكيان الصهيوني، وهي مع مرور الأيام تسدد له ضربات رغم محدودية وسائلها، فما بالك بما يمتلكه حزب الله، لكن الذي وقف عند هذا الهدف قصير النظر محدود الرؤية، لم يدرك بعد أن القوى الاستكبارية وعلى راسها أمريكا، ستكون الى جانب هذا الكيان، ولن تبتعد وتتخلى عنه بسهولة، وقد يؤدّي مواقفها في مناصرته والوقوف إلى جانبه ومؤازرته بانكسارها.

احتساب إيران الاسلامية لهذه المواجهة المحتملة، يؤكّد سلامة نظرتها الإستراتيجية، وهو الإعتبار الصائب الذي يجب أن يؤخذه المقاومون بعين الإعتبار، دور ايران في هذا المشروع مشروع العزّة والكرامة مفصليّ أساسيّ لا ينكره عاقل، ومن جحد فضل إيران وجهودها وأهدافها التحريرية، فهو بالتأكيد حاقد مريض، ذكر فضلها وأقرّه قادة حركات المقاومة الفلسطينية جميعها، وأعلنوه على الملأ وسمعه العالم بآذان واعية وأخرى صمّاء بكماء، لذلك لن يحجب حقيقة أنّ إيران الإسلامية تحمل اليوم راية المقاومة وترفعها عالية - رغم قساوة وشدّة ضريبتها - وتوفر لها ما تحتاجه من إمكانات ووسائل، ليوفّر أكبر مجال لتحقيق النصر المؤزر.

جهود إيران هي عند الله مصانة ومحفوظة ومجزاة، ولن يبخس حقّها نعيق من نعق مراوغا، واخفاء من أخفى حاقدا،  ودعوة من ادّعى طائفة، تبقى كما أرادت إيران وامضاها باني نظامها الأمام الخميني رضوان الله عليه، قضية المسلمين والمستضعفين في العالم، وقد يسهم المسلم الصادق والمستضعف الحقيقي في تحقيق النصر، أحسن من الشيعي الذي يعيش على التمني والإنتظار السلبي، يغرّد بالانتماء إلى أئمة الهدى، من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله خارج سرب محور المقاومة، وهو يرى بأمّ عينيه اليوم ولي الفقيه يحمل راية التحرير، ورمز شرف الأمّة بكل ما في هذا البيان من معنى، فمن انخرط تحتها، فقد هُدي إلى سبيل الولي الأعظم المولى صاحب العصر والزمان، ومن ابتعد عنها، فهو تائه بين مصطلحات وتعريفات غير مجدية لن تزيده عن الحقّ إلّا بعدا، من هنا يتميّز خط العاملين في سبيل الله من خطّ الأدعياء المسوّفين.  

المراجع

1 – سورة الأنبياء الآية 92

mardi 2 janvier 2024

الرّجُلُ الأسطورة


الرّجُلُ الأسطورة

بقلم: محمد الرصافي المقداد

إذا أردتُ أن أتحدّث بموضوعية عن الشهيد اللواء الحاج (قاسم سليماني)، فعليّ أن أعطيه بعض حقّه، هذا البعض يدفعني دفعا لأن أعنْوِن مقالي هذا ب( الرّجل الأسطورة)، فعلى الرغم من ظهور بعض الحقائق العالية القيمة عن سيرته المهنية، بقيت جوانب أخرى كثيرة من حياته، يكتنفها الخفاء إعلاميا، والسّريّة عسكريا، جوانب خاصة به عملا، ومشاعر وذهبت معه إحساسا وعاطفة، فلا مجال لاستشرافها بغير التخمين والإحتمال، وجوانب خاصّة بمهامّه العسكرية والقتالية، حُجِبت لأسباب أمنية في حينها، ومع انتهائها بقيت مع منظوريه من قيادة الحرس الثوري، لعدم انتهاء المهامّ في ملفّها الذي ما يزال مفتوحا، وتواصلها في كل ما تعلق بمواجهة الصهيونية والاستكبار العالمي، وهذا تعلّق بغالبية مهامّ الشهيد العزيز الحاج قاسم.

لأجل هذه الجهود الواسعة التي بذلها على رأس قيادة فيلق القدس، بعدما استلم مهامّه بتاريخ 24/1/2011 خلفا لأحمد وحيدي، وهذا لا يعني أنّه لم يباشر مهامّه الموكلة إليه قبل ذلك التاريخ، فهو ضابط في صلب جهاز الحرس الثوري، هذا الجهاز العقائدي الذي كان له دور بارز، في حفظ مكاسب الثورة الإسلامية ونظامها ومؤسساتها، ودور آخر لا يقلّ أهمّية، يندرج في إطار الهدف الذي دعا اليه الإمام الخميني، واستلم الإمام الخامنئي من بعده مسؤولية متابعة السير على نهجه، الذي عرفه العالم بأسره، باحتضانه لقضية فلسطين والقدس، وعمله على تحريرها بالمقاومة، كأسلوب وطريق وحيد، بإمكانه حل القضيّة حلّا نهائيا، وإعطاء الشعب الفلسطيني حقه في أرضه كاملا.

ما تناهى إلى أسماعنا، تعدّد مهام الشهيد العزيز في أفغانستان، وفي لبنان، وفي فلسطين، وفي اليمن، وفي العراق، وفي سوريا، وحتى في فنزويلا، فقد كان حاضرا في تقديم استشاراته العسكرية في لبنان، قبل عامي 2000 و2006 والتالي أسهم في تحقيق الإنتصار على جيش الكيان الصهيوني في التاريخين المذكورين، دون أن ننسى جهوده الأخرى المبذولة في إطار تسليح قوى المقاومة في لبنان وفلسطين، بقطع النظر عن توجّهاتها الفكرية والعقائدية، فما يهُمّ الشهيد قبل كل شيء، مواجهة الكيان الصهيوني بكافة القوى المُتاحة، والمتفقة على عدم شرعية وجوده في المنطقة، وهنا تبرز حكمته في جمع هذه العناصر المتباينة فكريا على هدف واحد، وهو زوال الكيان الصهيوني، أما في أفغانستان فقد تجلى دوره السياسي في بناء علاقة حسن جوار، أظهرتها حركة طالبان تجاه إيران وأحسن استثمارها الشهيد، بعدما راهنت أمريكا على جعلها شوكة في خاصرة إيران، من الجهة الشمالية الشرقية بعد انسحابها الفجئي من أفغانستان، أما في  فلسطين، فيكفينا هنا تصريحات قادة الفصائل الفلسطينية العسكريين والسياسيين، المليئة بالثناء والشكر لإيران قيادة وشعبا على ما قدمته لهم من دعم بمختلف أشكاله العسكري والماديّ، وما قدّمه الشهيد الحاج قاسم وسهر على تحقيقه، تجلّى في قدرة فصائل المقاومة، على صدّ الإعتداءات على قطاع غزّة، وتكبيد العدو الصهيوني خسائر فادحة أوقفت غطرسته، زد على ذلك طوفان الأقصى، نقطة تحوّل جذري في مواجهة العدو الصهيوني، وتحوّلها من الدفاع إلى الهجوم، ما أعطى للمقاومة بعدا عسكريا جديدا، طال أمن الكيان، كاشفا ضعف قواته العسكرية في مواجهة المقاومة الفلسطينية، يحمل بشائر نهاية الكيان المحتلّ.

أمّا في اليمن - وان كانت حركة الشهيد الحاج قاسم قد جرت في كنف السرية - فإنّ المعلومات عنها بقيت في ذلك الإطار إلى اليوم، وما أمكن معرفته هذه الأسلحة المتطورة التي أصبحت في حوزة حركة أنصار الله والجيش اليمني، ومن يطلق عليهم الأعداء اليوم أتباع القوى الغربية الحاقدة اطلاقا طائفيا بالحوثيين، إيهاما للعرب والمسلمين بأن ما يجري في اليمن، لا يعدو كونه سيطرة طائفية من جانب واحد، ما يزيد من تأليب مكونات الشعب اليمني ويدفعه الى التناحر، والتدخّل العسكري للسيطرة عليه مجدّدا، لكنّ الشعب اليمني صمد بقيادته الثورية الحكيمة، ودور اللواء الشهيد في تسليحه، وتمكينه من تقنيات صناعة أسلحته بنفسه، مثلما حصل لبقية حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، ولولا الجهود الجبّارة التي بذلها هذا الرجل العظيم، لانطوى ملفّ القضية الفلسطينية، على سلطة فلسطينية حُدّد دورها فقط في العمالة بأخبث حالاتها للعدو الصهيوني، ولولا الحاج قاسم لبقيت لبنان وبيروت مهيعا، تتردد إليه القوات الصهيونية عابثة بأهله، ولولاه لأخضعت اليمن إلى التحالف الأعرابي (والأعراب أشدّ كفرا ونفاقا)، ولوقعت نقطته الإستراتيجية مضيق باب المندب، بأيدي عملاء أمريكا والغرب، هذا المضيق الذي أصبح ممنوعا، على السفن التي تحمل سلعا من وإلى موانئ فلسطين المحتلة، والفضل يرجع أولا إلى حزم وشجاعة وصدق اليمنيين، واتحاد هدفهم مع ايران في محاربة الصهيونية والاستكبار، وثانيا الجهود العظيمة التي بذلها الشهيد من أجل عزّة اليمن وكرامة أهله.  

جهود ليس بإمكاننا تقييم قيمتها العالية، ونحن نرى اليوم هذا التطور الكبير الحاصل في محور المقاومة، كل ما يسعنا قوله في هذا المناسبة الرابعة لاستشهاد اللواء الحاج قاسم سليماني، أنّ ما قام به هذا الرجل الفذّ هو بمثابة أسطورة تقارب الخيال، لو أمكننا جمع تفاصيلها كلها، ومع عدم امكان ذلك، تبقى واقعا حقيقة ظاهرة اليوم للعيان، على ميادين مواجهة الصهيونية والاستكبار، لقد استشهد قائد فيلق القدس مغدورا من الأمريكيين، وهو في اطار أداء مهامّه السياسية والعسكرية، بعد أن نجح في تقديم المساعدة والنصائح إلى عناصر وحركات المقاومة، دون أن أنسى جهوده الكبيرة في تقديم الإستشارات العسكرية، وقيادة جبهات مواجهة داعش، وفلول الإرهاب والتكفير في سوريا والعراق، ولولا تلك الجهود لقامت داعش على أرض سوريا والعراق، ولابتُلِينا بخوارج عصر حديث، لا يختلفون في شيء عن خوارج القرن الأول من الهجرة النبوية.     

 

 

فاطمة أم أبيها؟



تذكّر بمناسبة مولد السيدة الزهراء عليها السلام

بقلم: محمد الرصافي المقداد

إذا أردنا أن نتحدّث  في مجال الفضائل والمراتب بين الجيل الأول من المسلمين، فإنّنا سنواجه أحاديث صحيحة، صرّح بها النبي صلى الله عليه وآله، وبنى عليها العارفون اعتقاداتهم، في مقابل روايات غريبة، مثيرة الرّيب في مضامينها، لكنّها بقوة السلطان الأموي وجدت من اعتبرها حقيقة صادرة عن الوحي، بينما هي وهْمٌ مُخترعٌ، جاء به وعاظهم، ليكون لهم ذريعة يرفعونها، من أجل بقاء سلطانهم قائما على رقاب المسلمين بالظلم والعدوان، وطمس حقوق الأولياء الحقيقيين الواجبة مودّتهم على جميع أجيال الأمة الإسلامية.  

كتابتي اليوم على سيّدة اصطفاها الله سبحانه، لتكون أمَتَهُ الصالحة بين نساء خلقه، فيتّخذون منها ومن سيرتها قدوة، تأخذهم إلى طاعته ورضوانه، عُرفت بألقاب عديدة منها الزهراء، ومنها البتول، ومنها الصدّيقة، ومنها المحدَّثّة، ومنها الطاهرة، ومنها سيدة نساء العالمين، ولعلّ أهمّ هذه الألقاب لقب أمِّ أبيها، فمن أخّرها عن مقامها جاهلا أو متعمّدا، مدّعيا قلّة ما جاء بشأنها من سيرة وأحاديث خاصة بها، فليس معذورا أبدا، فما جاءنا عنها على قلّته، كاف لوضعها موضعها الذي تستحقّه في الأمّة،  فيكفي أن أقول إنّها تربية أبيها وتلميذته الأولى من النساء، واستحقّت بعد ذلك أن تنال مقاما انفردت فيه مع أمّها، قال بشأنهما النبي صلى الله عليه وآله: (كمُل من الرجال كثير، وكمُل من النساء أربع، هنّ أسيا بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد.)(1)

أضاءت كنور بهر من رآها، وتعرّف على مخزون علمها ومنطقها في جيلها ومجتمعها، ومع ما كانت تحظى به من إكبار وتبجيل من أبيها، وهو نبي الله ورسوله إلى العالمين، لم تجدْ بعده سوى الاستهانة والتأخير، فلم يراعى لها شيء تقريبا، وغصبت حقوقها في ميراثها من أبيها، بعدما غصب حق زوجها علي بن أبي طالب وما أدراك ما عليّ، في ولايته على الأمّة قاطبة، منتهزين فرصة انشغاله في تجهيز أخيه خاتم الرسل صلى الله عليه وآله، فعقدوا عقودهم وتحالفوا على صرف الحكم عنه، وانتهى أمره إلى ما تمخضت عنه أحداث سقيفة بني ساعدة.

كلمحة ضياء خاطفة مرّت على جيل عرفها، لكنّه لم يكن مقدّرا حقّها، وحقّ زوجها وابنيها أئمة الهدى عليهم السلام، لكنّ ما نُقِلَ عنها كان كافيا لإظهار مقامها العالي، والعصيّ على أن تدركه غيرها من النساء، أمّا مظلوميتها، فحجّتها التي ألقتها على المسلمين في مسجد أبيها، أخرج من ادّعى عليها وتطاول على مقامها، من الصّادق إلى مقام المُفتري الكذّاب، لو عقل خطبتها عميان القلوب، ولكن أنّى لمن عمي قلبه أن يعي احتجاج امرأة طهّرها الله فأنزل بشأنها: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (2) وقال بشأنها أبوها: (فاطمة بهجة قلبي، وابناها ثمرة فؤادي، وبعلها نور بصري، والأئمة من ولدها أمانتي، والحبل المدود، فمن اعتصم بهم فقد نجا، ومن تخلف عنهم فقد هوى) (3)

من قال من ابنته المُجمّع على حقيقة بنوّتها؟ قيل له: إنها فاطمة وحدها فقط وغيرها ممن ألصق ببنوّته مجرّد ادّعاء، فلا تعدو بقيّة البنات عن كونهنّ ربيباته من هالة أخت خديجة،  ومن قال من أحبّ النساء إليه إجمالا؟ لم يُمهلهم الجواب عن التيه في البحث، فقد أجراها أبوها سيرة وسلوكا قبل أن ينطق بها، وجرَتْ في فهم وقناعة من عاشروا النبي صلى الله عليه وآله، وقد سألتْ عمّة جميعٌ بن عمير عائشة: من كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقالت: فاطمة عليها السلام قلت: إنما أسألك عن الرجال، قالت: زوجها، وما يمنعه؟ فوالله إن كان ما علمت صواما قواما جديرا أن يقول بما يحب الله ويرضى. (4)

وقد سأل على عليه السلام النبي صلى الله عليه وآله يوما فقال: يا رسول الله أنا أحب إليك أم فاطمة؟ فقال: أنت عندي أعز منها، وهى أحب منك (5)

محاولات التغطية على مظلومية السيدة فاطمة عليها السلام وصل إلى الكذب والتلفيق، وكان مفضوحا ومكشوفا، لا يقبله عاقل، بإمكانه التمييز بين ما هو مفترى، يراد به تضليل عامة المسلمين، وصرْفِهم عن منزلة أهل البيت عليهم السلام، وبين ما هو واقع من كون منزلة هذه السيدة الجليلة، لا ترقى إليها امرأة أخرى، سوى أمّها السيّدة خديجة عليها السلام، فلا الرواية التي حرّ         فها نهج بني أميّة - وقد أوردناها صحيحة في أوّل المقال- جاء فيها: (كَمَلَ مِنَ الرِّجالِ كَثِيرٌ، ولَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّساءِ إلَّا مَرْيَمُ بنْتُ عِمْرانَ، وآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وفَضْلُ عائِشَةَ علَى النِّساءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ علَى سائِرِ الطَّعامِ)(6) وأي فضل لعائشة أمام خديجة عليها السلام؟ فضلا عن فاطمة سيدة نساء العالمين؟ وما وجه المقايسة هنا بين الثريد وسائر الطعام، حتى يمكن اعتباره صحيحا؟ وهل يصح من النبي صلى الله عليه وآله مثل هذا القول والقياس، على ما يحتمله من تهمة دسّ، ليس من عادته اتخاذه أسلوبا لبعده عن الإستدلال المنطقي؟ ومع وجود الحديث الصحيح، الذي اورته في أول مقالي، فضح الوضّاعين وكشف مدى جناية الأفاكين على النبي صلى الله عليه وآله بالأقوال العاطلة، فلا مجال لهذه الرواية أن تصمُدَ أمام الحديث الصحيح، الذي برهن على منزلة شخصيات من اصطفاهم الله، وجعلهم حملة آدابه وأحكامه وحفظة دينه، وأثبت أن كل تلك التحريفات والتزييفات، كانت من صنائع معاوية، والأساس الأول في كلّ ما وقع تحريفه، خصوصا في ما اطلقوا عليه من باب الفضائل.  

ولنا فيما صرّحت به عائشة نفسها، رغم اعترافها بغيرتها من خديجة، وقذفها لها وهي ميّتة، في بيان  فضل سيدة نساء العالمين كفاية لمن يعي: عن عائشة قالت: استأذنتْ هالة بنت خويلد أخت خديجة، على رسول الله، فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: اللهم هالة. فغِرْتُ فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين، هلكت في الدهر أبدلك الله خيرا منها؟ فتغير وجهه عليه الصلاة والسلام، وزجر عائشة غاضبا: والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي حين كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها الله الولد دون غيرها من النساء.  (7)

إنّ من نقل روايات باطلة مدّعية صرْفَ حبّ النبي صلى الله عليه وآله إلى غير فاطمة وعلي عليهما السلام، وهي مفضوحة في مقصدها الأموي، الذي أسّسه معاوية، القاضي بصرف فضائل عن أهل البيت عليهم السلام، ونسبتها لغيرهم، تهوينا للمسلمين بحقوقهم، وحجب ما تعلّق بحياتهم مع النبي صلى الله عليه وآله، وصرف فضائلهم والصاقها بغيرهم، عمل سياسي خبيث، أراد منه مقترفوه استنقاصهم، مقابل الرفع من شأن من غصبوهم حقهم في قيادة الأمة الإسلامية الناشئة، بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله.

فقد جاء في كتاب الأحداث للمدائني: (ثم كتب معاوية إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إلي وأقر لعيني وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشد إليهم من مناقب عثمان وفضله. فقرئت كتبه على الناس فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى، حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقي إلى معلمي الكتاتيب، فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ،حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله.) (8)

ما استخلصناه -على قلّته- من سيرة النبي صلى الله عليه وآله بخصوص علاقاته بابنته فاطمة الزهراء عليها السلام، يؤكّد انفرادها بخصوصيات لم تتحمّلها فيها بعض نسائه، فركبتها غيرة فتّاكة، حادت بها وبغيرها عن واجب مودّتها، وقد جاء في السيرة عن عائشة قولها: ما رأيت أحدا كان أشبه سِمْتًا وهدْيًا ودَلّاً برسول الله صلى الله عليه وآله من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه، قام إليها وأخذ بيدها وقبّلها، وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها، قامت فأخذت بيده فقبّلته، وأجلسته في مجلسها.(9)

لكنّ الذي استخلصناه من ركام اختلط الغث فيها بالسمين، أشكل مجموعه على أجيال من أمّتنا، حوّلتهم من مقام المعرفة بهم وبحقوقهم، إلى مقام تجاهلهم والإستهانة بهم، وتقديم غيرهم عليهم، في مقام الولاية خصوصا، ولم يُحارَب بيت طُهْرٍ في التاريخ، مثلما حورب أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، وعجبي كيف تظلم فاطمة عليها السلام، وهي التي أذهب الله عنها الرجس وطهّرها تطهيرا، فلا تقبل دعواها في ميراثها، وتردّ بشهودها غاضبة على من ردّها، وقد ذكر البخاري أنها ماتت واجدة عليه، فكيف يرجو رحمة الله من أغضب فاطمة كائنا من كان، وأبوها الذي قال: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها اغضبني . (10) كيف تنتهك حرمتها فيعتدى عليها في بيتها، بعد أن هُدّد المعتدون بإحراقه، إذا لم يخرج من فيه للبيعة مرغمين (11).

من أجل أن يُعْطى هؤلاء الأطهار، وفي مقدّمتهم هذه السّيّدة المظلومة حقوقهم، يجب على كل عارف بمقاماتهم، أن يرشد المسلمين إلى حقائق أشخاصهم وما يمثّلونه من قِيَم إسلامية، خدمة لله ورسوله صلى الله عليه وآله، فليس هناك أجدى من إظهار وإبراز حقيقة دينية، لها فائدة في رفع مظلمة عن مؤمن،  وإحقاق حقّ مشروع له.

لم تعش أمّ أبيها - وهو افضل لقب تحبّه - سوى ثمانية عشرة عاما، منها ما يقارب الخمس وسبعين يوما بعد رحيل أبيها، فكانت أول أهل بيته لحوقا به، مضروبة مأذيّة بضربة تلقتها، أسقطت بسببها جنينها محسن، موصية زوجها وإمام زمانها عليّا عليه السلام، بأن لا يأذن لمن ظلمها حضور جنازتها، ففعل ودفنها ليلا سرّا، فقبْرها إلى اليوم غير معروف، سوى ما قاله النبي صلى الله عليه وآله: (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) (12) يرجّح أن يكون الإمام علي عليه السلام قد قام بدفن فاطمة عليه السلام في بيته، تطبيقا لوصيّتها، وتأمينا لعدم مشاركة الإنقلابيين عليه، والمعتدون على زوجته في مراسم الوداع والجنازة، وهو داخل في مساحة ما بين القبر والمنبر على الأرجح.

كنيتها بأمّ أبيها التي شرّفها بها والدها هي أحبّ الألقاب إليها، فقد كانت أعطته عاطفة ومشاعر الأمّ، وكان احساسه منها كذلك، مما جعله يكنّيها بتلك الكنية العزيزة عليها، فسلام عليها يوم ولدت وهذه مناسبة مولدها 20 جمادى الآخرة، وسلام عليها يوم استشهدت مظلومة منتهكة الحقوق، وسلام عليها يوم تبعث طالبة حقوقها ممن ظلمها ومن غبنها حقّها متعمّدا.

المصادر

1 – مجمع البيان الطبرسي ج 10 ص 480

2 – سورة الأحزاب الآية 33

3 – بحار الأنوار المجلسي ج 23 ص 143/

4 – كشف الغمّة الابي الفتح الأربلي ج 2 ص 90

5 – المصدر السابق

6 – جامع أحاديث البخاري كتاب أحاديث الأنبياء ج4ص158ح3411وص164ح3433 وفضائل الصحابة ج5ص29ح3770 ومختصرا فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. كتاب الأطعمة ج7ص75ح5419

7 – جامع أحاديث البخاري كتاب مناقب الأنصار ج5ص39ح3821/ مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل خديجة أم المؤمنين ج7ص134ح2437

8 – بحار الأنوار المجلسي ج33 ص 191 / شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج11 ص45

9 – سنن الترمذي أبواب المناقب ج6ص175ح3872/ سنن أبي داود أول كتاب الآداب ج5ص245ح5217

10 – جامع أحاديث البخاري كتاب فضائل الصحابة ج5ص21ح3714 وص 29ح3767

11 – ابن قتيبة الدينوري ج1ص19

12– جامع أحاديث البخاري باب فضل الصلاة ج2ص61ح1195/ مسلم كتاب الحج ج4ص 123ح1391