jeudi 25 mai 2023

الإمام الخميني قيمة روحية ومعنوية ثابتة



تحدثوا عنه بلغة تعبيرية عميقة، عندما يقرأها القارئ يرى فيها معاني الإنبهار والإعجاب بشخصية فذة، فريدة في مظهرها عظيمة في معنوياتها ونتائجها، فلم يبالغ من عبر عنه بلسان المقرّ برفعة قامته العلمية وعلوّ شأنه القيادي في تعريفاته، علماء وسياسيون واعلاميون، تحدّثوا عنه بإسهاب، خصوصا أولئك الذين واكبوا مسيرته الثورية، فتنوّعت تعابيرهم لتضع العالم أمام قائد كبير، لم يدّخر جهدا من أجل خدمة دينه وحسن قيادة شعبه.

وماذا يمكن أن يضيفه على هذه الشخصيّة النّادرة كل من تحدّث عنها، وكل الشواهد دالة على أنه فريد في ذاته، لم يوجد له مثيل في عصره غير ذلك الإمام الذي أحصى الله فيه علم نبيّه وغيب وعده المحتوم، رجل كافح طوال حياته ولم يهادن، كما كافح أبوه من قبل فقضى شهيدا، أخاف أعداءه من المفسدين في الأرض فأبعدوه عن وطنه وشعبه، لكنه استمر في كفاحه إلى أن استوت الثورة على ساقها، فعاد ليشرف على قيادة شعبه من الداخل، فكانت عودته التاريخية، مجسّمة مدى عشق الشعب الإيراني لقائده الإمام الخميني رضوان الله عليه، وبين يوم وصوله إلى طهران بتاريخ01/02/1979 في استقبال شعبيّ قُدّر بثلاثة ملايين من أنصاره، انتظروا ساعات طوال حول مطار مهرباد حتى نزلت الطائرة المقلّة له، فكان لقاء مشهودا شدّ إليه اهتمام دول وشعوب العالم،  وبإصدار توجيهاته وفتاويه، واستجابة الشعب الإيراني لها، تحقق انتصار الثورة الإسلامية التي قادها بحكمة بالغة، فكانت عشرة الفجر (11/02/1979) إيذانا بعصر جديد دخلته ايران لتكون لها كلمتها المعتبرة بين دول العالم.

لقد كان لذلك الإنتصار المشهود أثر بالغ، في رفع مستوى الوعي بين شعوب العالم الإسلامي، أعاد الأمل الذي كان في حدّه الأدنى، فنشأت على منوال ذلك الفكر الثوري، حركات إسلامية في فلسطين ولبنان، إيمانا بمن أسسها، أنه لا سبيل لنيل استحقاقات الشعوب بغير المقاومة والتضحيات، وفي مقدّمة هذه الاستحقاقات قضية الشعب الفلسطيني المظلوم التي أولاها الإمام الخميني أهمّية قصوى، بحيث جعلها قضيته الأولى وقضية شعبه الإيراني، على أساس أنها معضلة إسلامية، يجب أن تُحلّ بنفس الطريقة التي اغتصبت فيها.   

التأثّر بالثورة الإسلامية وفكرها العميق حملا الشهيد فتحي شقاقي إلى تأسيس حركة الجهاد الإسلامي، فكانت رافدا مهمّا لإسناد حركات مقاومة العدوّ الصهيوني، وتعليقا على حدث الثورة الإسلامية الإيرانية قال: (لقد منح انتصار الثورة الإسلامية في إيران الثقة لشعب فلسطين. لقد أوضح لنا أن انتصارنا يعتمد ويتبع لانتصار الإمام الخميني. إن الانتفاضة هي إحدى ثمار الصحوة الإسلامية التي أوجدها الإمام الخميني في المنطقة وخاصة في فسطين.)(1)

لقد كان لموقف الإمام الخميني تجاه قضية فلسطين أثر بالغ في إحياء أمل كسبها، خصوصا بعد الرعاية الكاملة التي أولتها دولته لمحور مقاومة العدو الصهيوني المحتل، وبلوغه اليوم بمختلف فصائله مستوى قوة الرّدع في مواجهته، ولولا الامام الخميني لذهبت فلسطين وحقوق شعبها في خبر كان، من جراء خيانات وتقاعس أغلب حكام العرب، وكل الدّلائل اليوم تشير إلى أنّنا نعيش مرحلة الوعي الكامل لهذا المحور المبارك، والعمل الجاد والناجع من أجل بلوغ غاية تحرير كامل فلسطين، مسنودا بشعبية واسعة من قوى الأمة الإسلامية.

تسع سنوات كانت كافية لتعانق فيها إيران التحدّي الذي رفعه الإمام الخميني، واثقا بقدرة شعبه وكفاءته في كسبه، وقضى ربك أن يرحل هذا الإمام الفذّ، بعد كفاح مرير ومعاناة مع المرض ليلتحق ببارئه قرير العين، مطمئنا بأنّه ترك وراءه رجلا كفؤا هو الإمام الخامنئي، الذي استلم قيادة شعبه ليواصل مشوار المقاومة وتحدّي قوى الإستكبار العالمي أعداء الله ودينه وأوليائه، وفيّا لنهجه، وشعبا مؤمنا بحقانية ولايته، مستمرّا في تحقيق أهدافه السّامية مهما بلغت به التضحيات.

وقد شكل رحيل الإمام الخميني بتاريخ 03/06/1989 يوما حزينا جدا للشعب الإيراني، فبمجرد أن أذاع راديو طهران نبأ التحاقه بالرفيق الأعلى نزلت جماهيره الى شوارع طهران ناعية باكية معبرة على مدى شعورها الحزين بفقده، وتقاطر الى مكان جثمانه الطاهر ملايين من الحشود من مختلف مناطق ايران، فبلغ تعداد أثر من ثلاثة عشرة مليونا من عشاق نهج ولايته، وسجل التاريخ ذلك اليوم برسم أعلى قيمة بلغها مشروعه في الحكومة الإسلامية، وكان بمثابة الضربة القاصمة التي تلقاها أعداؤه، يأسا منهم في ثني الشعب الإيراني عن مسيرته الثورية، والوفاء لصاحبها رضوان الله عليه.  

نيلسون مانديلا هذا المناضل الجنوب إفريقي، المنتصر على عنصرية الغربيين في بلاده، بعد تاريخ طويل من الكفاح والسجون، عبّر عن رأيه في الإمام الخميني، وكان متابعا لسيرته مهتما بأفكاره وأهدافه، فقال بشأنه: ( الإمام الخمينيّ كان قائداً فريداً من نوعه، إذ إنه تمكّن من إنجاح الثورة الاسلامية بأيد فارغة وإنه ليس قائداً كبيراً لإيران فقط، وانما قائد لجميع الحركات النهضوية والثوروية التحررية في العالم. كان الإمام الخميني نموذجاً مثالياً لنا لاستمرار دربنا نحو الاستقلال. إنه احد الأبطال الذين شكلوا مصدر إلهام لنا للاستمرار في مواجهة الأبارتايد.)(2)

ولم يتخلّف الصحفي المصري الشهير محمد حسنين هيكل عن التعبير بما اختلج مشاعره وهو من بين المتابعين للإمام الخميني وثورته الإسلامية فقال: (إنّ الإمام الخميني هبة ربانيّة وسماوية لأهل الارض. كأنه إحدى شخصيات صدر الإسلام، عادت بمعجزة الى الأرض، كي تقود جيش الإمام علي بعد غلبة الأمويين واستشهاد أهل البيت. إنه كان كرصاصة انطلقت من صدر الإسلام مستهدفة قلب القرن العشرين.)(3)

أمّا المفكر المصري فهمي هويدي فقد قال بعد متابعات وزيارات لإيران قبل وبعد الثوة: ( حقّق الإمام الخميني (رض) الانتصار للمستضعفين والتّقدّم المهمّ للموقف الإسلامية في العالم المعاصر، لقد أثبتت أقواله أنّ الدين عنصر مؤثر وفعال في تحريك الشعوب على عكس الذين إدّعوا أنّ الدين هو افيون الشعوب وعامل خمولها وضعفها.(4) رضوان الله على قائد مسيرة اعزاز الدين وأهله، وفي هذا الإطار نعاهده أننا سنبقى أوفياء له ولنهجه وأفكاره، نستلهم منها قيمة الإعداد والتمهيد لمولاه ومولانا صاحب العصر والزمان مهدي الإمة الإسلامية ومنتظر اشعاع دينها على يديه المباركتين.

 

المراجع

1 – 2 –3 – أقوال علماء وشخصيات عالمية في الإمام الخميني

https://arabicradio.net/news/80336

4 – الإمام الخميني من وجهة نظر الساسة ومفكري العالم

http://ar.imam-khomeini.ir/ar/c74_5488/

 

 

 

 

 

mercredi 24 mai 2023

رجل الإصلاح الذي أحيا نظرية الحكم في الإسلام

 


لا يمكن المرور على شخصية عالمية كبيرة، تركت بصماتها واضحة جليّة في بلادها، وأثّرت بشكل كبير في الساحة الإسلامية والعالمية، من دون أن نُولِيها أهمّيتها التي تستحق، فنعطيها بعض حقّها الواجب علينا، ردّا على قوى الغرب وعملائه، الذين بذلوا قصارى جهودهم في تشويهها، وسعوا بوسائلهم الإعلامية المتنوعة، للتأثير سلبا على مشروعه في استعادة الإسلام المحمّدي دوره الريادي، على مستوى القيادة الصالحة للشعوب الاسلامية، محاولة منهم في منع انتشار فكره الثوري، ورؤيته العميقة في إطار شمولية الاسلام كمنظومة إلهية، هدفها تأصيل معارفها وإرساء نتائجها المترتبة عليها من عدل وأمن بين الناس، وقد وجد كل من اطّلع على مؤلّفاته ارتباطا وثيقا بأحكام الإسلام واستحقاقاته الضرورية، وفي مقدّمتها قضية تحرر الشعوب الإسلامية من تبعية وهيمنة القوى الإستكبارية.

شخصيّة رسمت بقوّة أحداث الثلث الأخير من القرن الماضي ( 1963/ 1979) فأدارت أعناق دول وشعوب العالم إليها، بمواقفها الصائبة ومشروعها الكبير، في إقامة نظام حكم إسلامي، على أساس نظرية ولاية الفقيه، التي برهنت بها أن الإسلام دين سياسة، جدير بقيادة الشعوب الإسلامية بل وقيادة العالم بأسره، وليس كما عمِل أعداء الإسلام المحمّدي على إشاعته بين المسلمين، بأنه دين بعيد عن السياسة والحكم، بدليل السياق التاريخي في إحكام الفصل بين الدين والسلطة على مدى خمسة عشرة قرنا ماضية.

ثورة قادها الإمام الخميني (1) منذ سنة 1963 بجدارة، وكانت خطاباته التي كان يلقيها، على طلبة العلوم الدينية، والمتابعين له من أبناء شعبه، كاشفة عمالة الشاه ودوره الخبيث في خدمة مصالح أمريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني في إيران، خطابات متحدّية غطرسة حكومة آلت على نفسها أن لا تقيم وزنا للدين والوطن، بأسلوب العالم الوليّ الثائر، في كشف ما خفي من سياسات منحرفة عن أصالة إيران، صاحبة التاريخ الإسلامي المليء بخدمة الإسلام.

ظهور الإمام الخميني رضوان الله عليه في ذلك التوقيت الحساس، وتصديه لسياسات الشاه المنحرفة، في إطار حركة الإصلاح ضرورية، هي من سنن الله في تقويم خلقه، وتوجيههم الوجهة الصحيحة، في إقامة الإسلام الشمولي، الرافض للتجزئة والسّلب لمقوماته، مصداق الحديث: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)(2) ولا يمكن تجديد الدين من دون إحياء أحكامه وبيان وسائله في قيادة أهله.

لقد أوجد الامام الخميني رضوان الله عليه من خلال دروسه ومحاضراته عن الحكومة في الإسلام ثقافة لم تتوقف عند الإيرانيين فقط، بل انتشرت فكرتها وذاعت بين مثقفي الأمّة الإسلامية، فتبناها من تبنى من عرب المسلمين وعجمهم، مؤمنين بأصالتها وجدواها، فدعوا إليها واصبحوا من أنصارها، والإسلام هذا الدين الخاتم لرسالات الله قال بشأنه: ( الإسلام دين السياسة، وهذا الأمر واضح ـ في جميع الشؤون ذات البعد السياسي ـ لكل من له أدنى تدبّر في أحكام الإسلام الإدارية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وعليه فكل من يعتقد بأنه لا علاقة للدين بالسياسة، فهو لم يفهم "الدين" ولم يعرف "السياسة".(3)

والذي تحقق على يد الإمام الخميني لم يكن ميسورا لكثير من أولياء الله الكُمّل، ليس لعدم قدرتهم على القيام بذلك، فهم أيضا أهل تحقّق الكرامات الإلهية على أيديهم، بل للتّباين الكبير بين هؤلاء القادة العظام ومجتمعاتهم وبيئتهم التي عاشوا فيها، النجاح والفشل في المشاريع الاجتماعية والسياسية الكبرى مرتبط باستجابة البيئة الحاضنة لها، وهذا ما ساعد هذا الفقيه العارف على تحقيق إنجازه في إرساء نظام حكم إسلامي، كان بعيدا عن متناول من سبقه من العلماء والفقهاء، بل كان حلما بعيد التحقّق بالنسبة إليهم.

دور الفقيه لا يقف عند بيان أحكام الله إباحة ونهيا، ليكون موظفا تحت سلطة حاكم يأتمر بأمره وينتهي بنهيه، بل هو دور محوري يصل إلى مستوى تقلّد زمام الحكم في بيانه وتنفيذه، وهذا ما عمِل أعداء الإسلام على بثّه في عقول المسلمين وتأصيله فيهم، حتى أصبحت نظرتهم إلى الإسلام قاصرة عن إدراك أنه نظرية حكم متكاملة غير منقوصة، أنزلها الله لإسعاد البشرية، تحت منظومته التشريعية وقوامها التنفيذي، يقول الامام الخميني رضوان الله عليه: (كونوا على اطمئنان بأن كل ما هو بصلاح المجتمع في بسط العدالة ورفع أيدي الظلمة وتأمين الاستقلال والحرية، والنشاطات الاقتصادية وتعديل الثروة، موجود في الإسلام بشكل كامل وبصورة منطقية، قابلة للتطبيق والتجسيد العملي، ولا يحتاج إلى تأويل خارج حدود المنطق.)(4)

لم يكن سهلا على هذا المصلح الكبير طرح نظريته على أبناء شعبه، دون أن يكون متاحا له توفر فرصة إقامتها، وقد أتاحت له الثورة التي قادها، وانتصر فيها على أكبر عميل لقوى الغرب في المنطقة، وبإسقاطه قطع أيدي مستغلي ثروات بلاده والعابثين بمقدّراتها، أن يبسطها للإستفتاء الشعبي جاءت نتائجه، بإجماع بلغت نسبته العالية 98.2%، ليتأسس بعدها نظام ولاية الفقيه العادل، الذي بلغ اليوم بإيران إلى مصاف الدّول النامية، المنافسة بقوة دول الغرب في العلوم والتكنولوجيا المدنية والعسكرية، برهنت فيه أن الإسلام إذا فصلت أحكامه وآدابه عن السياسة، يصبح عقيما بلا فائدة.    

المشاريع الإنسانية سواء أكانت إلهية أم بشرية تقاس بنتائجها، وقد شهد العالم على أنّ ما أسسه الإمام الخميني من نظام الإسلامي في إيران، قد اجتاز بنجاح باهر جميع مراحل نموّه وتأصيله، ولم تكن العقبات التي اعترضت طريقه - وهي خطيرة - لتُعيقه عن التقدّم في بنائه، وإثبات جدارته بقيادة المجتمع نحو الافضل، رغم ما خططته أمريكا والصهيونية العالمية له، قد استطاع أن يتجاوز كل تلك المؤامرات، ويستمرّ في بناء دولة عتيدة، قبلت التحدّي وقاومت أعداءها بكل الوسائل المتاحة لها، وحقّقت جميع أهدافها في التقدّم ومنافسة الدول المتقدمة، وأعطت دليلا غير قابل للنقض بأنّ نظرية الإمام الخميني رضوان الله عليه في الحكم الإسلامي صائبة في بنائها الفكري، مستجيبة تماما لشروط الحاكم الإسلامي، وأهمّها الأعلمية والعدالة، ومن كان مع الله في نصرة دينه وإعلاء كلمته، كان الله معه في تثبيته على ذلك. 

المراجع

1 – ولد الامام روح الله الموسوي الخميني في 20 جمادى الآخرة سنة 1320/ 23 سبتمبر 1902// وتوفي في 3 يونيو ( جوان) 1989 بعد تسع سنوات من إقامة مشروعه الإسلامي في حكومة إسلامية مبنيّة على أساس ولاية الفقيه العادل.

2 – سنن أبو داود أول كتاب الملاحم باب ما ذكر في قرن المائة ج4ص313 ح 4291 / فتح الباري ابن حجر ج13ص295 /المقاصد الحسنة السخاوي ح149 السلسلة الصحيحة الالباني ح599

3 – الحكومة الإسلامية في فكر الامام الخميني (ره)

https://alwelayah.net/post/39535

4 – الحكومة الإسلامية في فكر الامام الخميني (ره)

https://alwelayah.net/post/39535

 







 

 

 

samedi 13 mai 2023

 

بصيرة المؤمن في مولاة صاحب التمهيد

بصيرة المؤمن اليوم مطلوبة في زماننا وفي كل زمان، ليستعين بها في مسيرته الدينية، خصوصا وقد أظهر أعداؤنا من تخطيطاتهم الماكرة، ما من شأنه أن يُرْدي في الهاوية كل من لم يتسلح بملكة البصيرة، فليس أضرّ على المؤمنين، من غياب البصيرة وفقد البوصلة، قال تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره) (1).

ومعرفة المؤمن بأحوال زمانه مساحة أمن له، لاستكمال طريقه نحو حسن الخاتمة، قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)(2) فلا يلتبس عليه شيء من ابتلاءاتها، لتكون معالجته لها من خلال تعامله معها، متحصّنا بالصبر والمصابرة، على تخطي عقباتها مهما كبُرت، طالما هو متابع لأطوارها وسابر لأغوارها، ومنهجه الذي ارتضاه لنفسه، يحتّم عليه أن يكون فوق تمام معرفته الحاصلة من تجاربه، مطّلعا على كيفية معالجة أيّ طارئ يطرأ عليه فيها، بمعنى أدقّ، أن يحسن قراءة تطوّرات الساحة المحلّية والإقليمية والدولية، فما يجري فيها من أحداث، من شأنه أن يؤثّر على الجميع بنسب متفاوتة من الإيجاب والسّلب، ومن خلال معرفته العملية الحاصلة، يسهل عليه إتخاذ الموقف الصحيح.

فلا يكفي أن يعزل المؤمن نفسه بين ركام موروثات اختلط فيها السقيم بالسليم، ولا يمكنه أن يستخلص هذا من ذاك، من دون أن تكون له مرجعية رشيدة حكيمة، عاملة بكل طاقاتها، من أجل بلوغ مستوى مجتمع التمهيد المطلوب، وليس من بعض الجهات والأشخاص، مجرّد رفع شعارات وتصدّر مشاهد، واطلاق خطب رنّانة بحق أهل البيت عليهم السلام، وتجاهل واقع الحال، الذي بدت واضحة فيه خطط أعداء الإسلام المحمدي الأصيل، ليوقعوا الضرر به من داخل أسواره، خصوصا إذا وجدوا حاضنة له مستعدّة للقيام بذلك، تحت أي عنوان ومُسمّى، وتاريخنا حافل بالمؤامرات من هذا النوع الخبيث، فكم من ثورة أُجهضت من طرف عناصر مُدّعية، تغلغلت داخل الكتلة الإيمانية، أحسنت منطق التعبير والبيان، وانتشرت كلماتهم بين السامعين، فصدّقهم من تعوّد على إعطاء أذنيه لكل ناعق.  

لم يغِب على أئمة الهدى تنبيه أولياؤهم إلى ضرورة معرفة الزمان أهْلاً ومخطّطاتٍ، فجاءت نصائحهم دقيقة، ومنبّهة إلى ضرورة استعمال البصيرة للتّمييز بها بين ما هو حق يجب اتباعه وما هو باطل يجب اجتنابه، فقد جاء عن الإمام علي عليه السلام:)حسب المرء... من عرفانه، علمه بزمانه.)(2) هذا العلم المطلوب، من شأنه أن يمنع المؤمن من الوقوع في شبهات المشاريع الدخيلة، وإن تعنونت بعنوان إيماني، وشخصياتها التي تتلبس بلبوس الدين، وتظهر بمنطق العالم الخطيب المفوّه، وكم من عالم لم ينفعه علمه، وكم من خطيب ظهر بحسن كلامه، فأرخى له المفتونون عنان أزمّتهم، يقودهم إلى غير وجهتهم الصحيحة، دون أن يحترسوا من كون هذا الرجل أو ذاك يحمل مخططا، لا يعلمون منه شيئا تقريبا، قد يكون له الأثر السيء على مسيرتهم الإيمانية.

ويطابق حديث الإمام الصادق عليه السلام، مع حكمة جدّه مولى الموحدين عليه السلام، وقد جاء فيه: (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(2)، إنّ في تجارب الأئمة عليهم السلام وخلّص تلاميذهم ومستصفى أتباعهم، لعبرة لمن يريد أن ينجو من إتباع الشبهات، وزماننا هذا مليء بأمثلة ظهرت على الساحة، في رجال تلبسوا بلبوس العلماء، دعت بألسنتها إلى اتباع أهل البيت عليهم السلام، لكنهم في الواقع لم يأتوا من تلقاء أنفسهم، بل جيء بهم إلى ساحة معينة، لأجل تنفيذ مخطط هدفه تفريق الثلة المؤمنة عن اجتماعها، وتحريفها عن مسيرتها الصحيحة.

وفيما أفضاه الإمام علي بن أبي طالب لكميل بن زياد: (إنَّ هذه القلوبَ أَوْعيةٌ، وخيرَها أَوْعاها للعلمِ، احفَظْ عنِّي ما أقولُ لكَ، الناسُ ثلاثةٌ: عالمٌ رَبَّانيٌّ، ومتعلِّمٌ على سبيلِ نجاةٍ، وهمَجٌ رَعاعٌ أتباعُ كلِّ ناعقٍ، يميلونَ مع كلِّ ريحٍ، لم يستضيئوا بنورِ العلمِ، ولم يَلْجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ) (4)

فمن كان عالما ربانيا فقد عصم نفسه عن الدخول في متاهات لا يلجها سوى المفتونين، أولئك الذين لا قدرة لشياطين الإنس والجن على غوايتهم والتمويه عليهم، وذلك مقام أولياء الله الكُمّل عليهم السلام، ومن حصُل على علم ينجيه من هلكات الدعاة إلى الدنيا، وإن كان ظاهرها دعوة الى الدين، فغالبا ما يلتجئ هذا الصنف من الدعاة، وما أكثره في زماننا وفي كل زمان، إلى استعمال أساليب متنوعة من المخاتلة والتمويه، لكي يصدّقهم السامعون، ويطمئنوا إليهم على أساس أنهم أهل صلاح وتقوى ودعوة إلى الله.

وجاء في حكمة أخرى لسيد البلغاء عليه السلام: (الركون الى الدنيا مع ما تُعَايِنُ منها جهلٌ، والتقصير في حُسن العمل إذا وثِقْتَ بالثواب به غُبْنٌ، والطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار عجْزٌ.) (5) فمع معاينة ما يجري في الدنيا من تلوّن عباد، وتآمر آخرين، منهم من يظهر الإيمان ويستبطن النفاق، يتكلم بلسان الدين ويلبس لباسه، ليرى الناس صورته وقدرته، فينخدع به من لا طاقة له باختباره، ونصيحة أمير المؤمنين عليه السلام هنا، تدعونا إلى اختبار الناس، إذا أردنا أن نتخذهم خلانا أو أصحابا، فليس أقوم من اختبار المتسلقين حياتنا، من أجل معرفتهم عمليّا، ولا مكان للمعرفة النظرية هنا، لأنّها لا تُعطي الصورة الحقيقية للشخص ولا تعبّر عنه من خلال كلماته، بل من خلال مواقفه.

وإن أخطر ما في دعوات أدعياء العلم والمعرفة، من أصحاب الألسن المعبّرة بطلاقة عن مفاهيم إسلامية، استبعاد السياسة من حياة المستدرجين إليهم، على أساس أنّ ذلك ليس مهمّا، وليس من أولوياتنا الدينية، فيتمّ حصرهم في مجالات عقائدية ومسائل خلافية، يقوم بنشرها بما فُسِح له المجال الإعلامي ذلك، وليست تلك الخدمة بالمجان، ونحن نعرف جيّدا أن مجالنا الإعلامي موبوء وقذر، بتاريخه القديم والحديث، وأيّ دعوة تأتي من هذا الباب، يجب أن ينظر إليها على أنّها ليست بريئة، وقد تحمل في طياتها مشروعا مُسترابا في أمره.

ساحة الدين هي ساحة الله سبحانه تعالى وملكه، ذلك الصراط المستقيم الذين جعله مقصد الذين آمنوا بأحكامه وائتمروا بأوامره وانتهوا عن نواهيه، فلا يغترّنّ مُغترّ بسهولة اختراق ساحته والعمل فيها كما يتراءى له، من دون مستمسك يعطيه حقّ مباشرته، كما قال تعالى: (  ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) (6) ، وهذا أمرٌ مهمّ يجب التنبه له، وسلوك هذا الصراط  - لمقعد شياطين الإنس والجنّ فيه ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم)(7) - يحتاج إلى بصيرة التمييز بين قوّتين تتنازعانه، قوة الهداية التي يحصل عليها المؤمن، من خلال اتباع منظومة اتّباع عباد الله الصالحين، ومنها ولايةّ الفقيه التي أسّسها الإمام الخميني الراحل رضوان الله عليه، واستلمها من بعده الإمام القائد الخامنئي أدام الله بقاءه وعزّه، هذا المنهج العمليّ هو الطريق الصحيح للتّمهيد الحقيقي، لمولانا صاحب الزمان عجل الله فرجه، فيه يلتقي الدين بالسياسة، والعلوم بالتكنولوجيا، والصناعات المدنية بالعسكرية المتطوّرة، والفكر المستنير بنور العلماء الأبرار، وثقافته المعبّرة على السّموّ المعرفي نتاج الثورة الإسلامية التي انفتحت أبواب معارفها، في إطار الإعداد الذي حث الله سبحانه عليه، لتكوّن هذه العناصر معًا منظومة الإسلام الشمولي الأصيل، الذي يَعتبر أتباعه أنّ دوره أساسي في تهيئة المجتمع المسلم، حتى يكون مثاليا، قادرا على تحقيق إرادة الله في الأمّة القانتة له، القادرة على تحقيق وعده الحقّ، في وراثة عباده الصالحين لأرضه، وتطبيق دينه الذي ارتضاه لهم.

وما دعا أمريكا وحلفاؤها إلى مواجهة هذه الظاهرة الصحّيّة للإسلام، بعد ظهور باكورة ثورة قوم سلمان المحمّدي، في شكل نظام ولاية الفقيه العادل، باستعداء الدول العميلة عليها، وتشويه صورتها إعلاميا، وعرقلتها اقتصاديا بالعقوبات الظالمة، وأكثر من ذلك اعداد منظمات وجمعيات في بلادنا العربية والإسلامية، مختلفة الأدوار في هذا المجال، والإنفاق عليها بسخاء كبير، في إطار تعبئة جبهة دعيّة للإسلام، تقوم بالتشويش على هذا المنهج الولائي، وعرقلة مشاريعه الإسلامية، بتحييد المسلمين عن نهجها وتشويه وتشكيكا، والأجهزة الأمريكية المتخصصة تعمل عبر مؤسسة التلاقي وغيرها من المؤسسات المشبوهة، على استدراج الشباب المسلم من أجل تحييده عن مولاة هذا النظام العتيد، في مسعى لوقف انتشاره، على ساحة التمهيد الحقيقي للمصلح العالمي، وتحويل وجهته واهتماماته إلى أشياء تراثية وحصرها مناك، دون الإهتمام بواقع الحال، وما يستوجبه من أولوية.

من سوء تقدير ولاية الله تعالى أن يوقفها من يوقف عند المعصومين فقط، وهي ولاية متواصلة في سلسلة ولاية الله، في ذخيرة الأئمة وصيّتهم الهامة، في موالاة فقهائهم العدول وإتّباع نهجهم، الذي هو نفسه نهج الهداة المعصومين بلا فرق، ففي زيارة عاشوراء مثلا نجد: ( وأتقرب الى الله ثم إليكم بموالاتكم وموالاة وليّكم، والبراءة من أعدائكم والناصبين لكم الحرب، والبراءة من أشياعهم واتباعهم.. إني سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم، ووليّ لمن والاكم، وعدوّ لمن عاداكم) وانكار وجوب الدخول تحت خيمة وليّ الفقيه، ضرْبٌ من الجحود وانكار الحقّ الذي بدا كفلقة الصبح الصّادق، فيا حبّذا الرجوع إلى الله واعتماد سبيل الوليّ الممهد ففي ذلك منجاة لصاحبها وتقوية لنهج أثبت أنه جدير بالموالاة. 

المصادر

1 – سورة القيامة الآية 14/15

2 – بحار الانوار ج 75 ص80/عيون الحكم والمواعظ الليثي الواسطي ص 126.

3 – الكافي الكليني ج1ص27/ميزان الحكمة محمد الرّي شهري ج2ص1157/ تُحف العقول عن آل الرسول ابن شعبة الحرّاني ص356/

4 – نهج البلاغة الامام علي باب المختار من حكم أمير المؤمنين الحكمة عدد 147 ص 664 شرح وتبويب علي محمد علي دخيل / جامع أحاديث السيوطي ج29 ص76 ح2135 /تاريخ دمشق ابن عساكر ج50ص251 / الخصال الشيخ الصدوق ص186/

5 – نهج البلاغة باب المختار من حكم امير المؤمنين الحكمة عدد 383 ص 733 شرح وتبويب علي محمد علي دخيل

6 – سورة البقرة الآية 189

7 – سورة الأعراف الآية 16